ودعت البحرين يوم 28 مارس 2004 شاعرها الكبير الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة عن عمر ناهز 73 عاماً، قضاها في محراب الأدب والشعر، تعلم نظم القصائد من معلمه الأول الشاعر إبراهيم العريض، وقرأ في دواوين نخبة من كبار الشعراء العرب، بدءاً من أبو الطيب المتنبي، مروراً بالشاعر إيليا أبو ماضي، وأبي القاسم الشابي، وعلي محمود طه، وليس انتهاء بالشاعر عمر أبوريشة.
كان لكل واحد من هؤلاء تأثير واضح عليه، عندما بدأ بكتابة القصائد، بدليل ميله إلى شعر الافتخار والتباهي ببلده البحرين، وشعر المناسبات الذي استحوذ على الجزء الأكبر من نتاجه، علاوة على شعر التغنّي بالطبيعة والجمال الذي استحضر صوره من بيئة البحرين بسواحلها ونخيلها ومياهها الزمردية وفرجانها العتيقة من جهة، ومن بيئة لبنان الساحرة، التي ظل يتردد عليه ثم غاب عنه لمدة عقدين، فكتب في وصفه وجماله 4 قصائد هي «مزامير على سفوح لبنان»، و«تحية إلى بيروت»، و«لبنان»، و«ذكرى الأخطل الصغير»، على أن بيروت، لم تكن وحدها التي خصها الشاعر بشعره وهيامه، فقد هام أيضاً بالقاهرة وبغداد.
بساتين النخيل
ولد «عاشق أورال» وشاعر الطبيعة، الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة في قرية الجسرة عام 1929، ابناً لفرع من فروع الأسرة الخليفية الحاكمة التي أعطت البحرين أيضاً شعراء آخرين مثل الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة، والشاعر الوائلي الشيخ محمد بن عيسى آل خليفة.
وفي عمر الثالثة انتقل إلى قرية الزلاق على الساحل الغربي لجزيرة البحرين، لينشأ ويترعرع ويعيش طفولته وصباه فيها على مشاهد البحر والصيادين وبساتين النخيل الخضراء.
وظل هناك حتى 1951 لينتقل بعدها للسكن في منطقة مغايرة تماماً، تعج بالحركة والضوضاء هي منطقة القضيبية في قلب العاصمة المنامة، حيث درس المرحلة الثانوية مزاملاً 3 ممن أصبحوا لاحقاً من ضمن نجوم الشعر والأدب في الخليج، هم الدكتور غازي القصيبي، والشاعر عبدالرحمن رفيع، وناصر بوحيمد.
وفي القضيبة أيضاً تعرّف أحمد آل خليفة على الشاعر إبراهيم العريض الذي كان يقيم في المنطقة ذاتها وتتلمذ على يده، علماً بأن العريض خصّه بالجملة التالية في معرض رأيه فيه: «أحمد بين الشعراء الذي تعتز بهم الجزيرة، هو أقواهم إلى الحياة التي يمارسها تعبيراً، وأرهفهم بالآلام التي يعانيها في وحدته شعوراً».
وعن ظروف تعرفه على العريض وارتباطه به أخبرنا الشاعر في حوار معه نشرته صحيفة «الأيام» بعد وفاته (23/5/2004) بما يلي: «لقد التقيت بسائق كان يعمل عنده وهو جار لي وقلت له لدي رسالة أرجو توصيلها إلى إبراهيم العريض، كان ذلك عام 1952 وبالفعل وصلت الرسالة التي كنت أطلب فيها مقابلته لأعرض عليه بعض أشعاري، وفوجئت بأن الرجل رحب بي بشكل لا يوصف، ومن تلك اللحظة أصبحت بيننا صداقة أدبية وإنسانية، وأذكر أنني في بداياتي الشعرية كتبت قصيدة وأهديته إياها، فقال لي: أنصحك ألا تنشر أي تجربة، عليك أن تتمهل وتراجع ما تكتبه، وتذكر دائماً أنك لن تصبح شاعراً إلا إذا تحدث عنك الأدباء والنقاد في دمشق والقاهرة».
أول ديوان
ولشدة تعلقه بالأدب والشعر منذ يفاعته، برز ضمن طليعة شعراء البحرين المعاصرين، الذين خلدوا دروس الحياة وصور البيئة البحرينية القديمة وتجربة الغوص على اللؤلؤ وحوادث المجتمع والمناسبات التاريخية من خلال قصائد غلبت عليها الرومانسية وطغت عليها الصور الخيالية، والتزمت بخطوط النظم الكلاسيكي بعيداً عن تيارات التجديد والحداثة التي عاصرها دون أن يتأثر بها أو برموزها، وإن كان قد تمرد على النمط الشعري المحافظ لجهة الموضوع والأسلوب، وليس لجهة الوزن والعمود.
ونرى هذا بوضوح في الأعمال والدواوين الشعرية التي نشرها بدءاً من أول ديوان أصدره عام 1955 تحت عنوان «أغاني البحرين» من خلال «دار الكشاف» اللبنانية، وانتهاء بأوبريت الفاتح عام 2003، ومروراً بدواوين: «هجير وسراب» (1962)، و«بقايا الغدران» (1966)، و«القمر والنخيل» (1978)، و«العناقيد الأربعة» (1980)، و«غيوم في الصيف» (1988)، و«عبير الوادي» (2001)، و«أنفاس الرياحين» (2003).
نتاج
أورد الأديب السعودي، عبدالله أحمد الشباط، في كتابه «أدباء وأديبات من الخليج العربي» الصادر عام 1999، رأياً لناصر بوحيمد في شعر الشيخ أحمد، قال فيه: «برغم التيارات الأدبية الجديدة بالنسبة لعمود الشعر، بقي محافظاً على القديم، ولعل هذه الصفة تعد دليلاً على مقدرته الأدبية وإيمانه بضرورة صيانة اللغة والمحافظة على الطابع الأصيل فيها، وهذه الصفة يلاحظها الدارس لأوضاع الخليج العربي عامة، ولشعراء آل خليفة بالذات وإصرارهم على الالتزام بتقاليدهـــم التي ورثوها منذ القدم».
ومما وجدته في سيرته المنشورة في أكثر من موقع شعري إلكتروني، أن أول منصة نشرت نتاجه الشعري كانت مجلة «المستمع العربي» الصادرة عن هيئة الإذاعة البريطانية، حيث قامت المجلة الشهرية، التي تغير اسمها في ما بعد إلى «هنا لندن»، بنشر إحدى قصائده الأولى في عددها الصادر في نوفمبر 1951.
وبعد ذلك، في 1952، راحت قصائده تـُنشر في العديد من المجلات والصحف المحلية والعربية.
وفي السياق ذاته، كتبت صحيفة «الأيام» البحرينية (25/2/2017): «تصدرت قصائده العديد من الصحف العربية ومن بينها مجلة «المجتمع العربي» المصرية، و«القافلة»، و«صوت البحرين»، و«الخميلة»»، حيث أصبح من ألمع شعراء المنطقة آنذاك لما لقصائده من وزن أدبي ثقيل ولقدرته الشعرية الرفيعة.
ولعل نشأته في ظل أسرة عربية عريقة، ثم اكتمال نضجه ووعيه الفكري في عقد الخمسينيات الحافل بالأحداث المتسارعة في العالم العربي، كقيام الثورة المصرية، والعدوان الثلاثي، وانطلاق الثورة الجزائرية، وبدء الكفاح من أجل الاستقلال في تونس ومراكش والتغنّي باستعادة فلسطين، لعبا دوراً في توجيه جانب من نتاجه الشعري.
وخلّد مأساة فلسطين وشعبها بملحمة شعرية بعنوان «فلسطين من وراء الضباب»، ورثى المجاهد المغربي الأمير عبدالكريم الخطابي بعد استشهاده بقصيدة أشاد فيها ببطولاته ومواقفه الوطنية ضد الاستعمار الأسباني للريف المغربي. ويقول الأديب الشباط، إن شاعرنا راح بعد فورة الشباب ينظر إلى الأمور برصانة أكثر ويعالجها بأسلوب رصين وهادئ يدعو إلى التأمل.
قرض
بدأ الشاعر الشيخ أحمد آل خليفة، مسيرته الأدبية بقرض الشعر النبطي، قبل الفصيح متأسياً بنهج الشعراء الشيوخ، ومقتدياً بالشيخين إبراهيم بن محمد آل خليفة، ومحمد بن عيسى آل خليفة، وكان يرى أن الوطنية لا تكمن في إطلاق الشعارات، وإنما تجسدها ذوبان روح المرء في وطنه والالتصاق بترابه والإيمان بقدراته.
ومن هذا المنطلق، أنشد أحلى القصائد في البحرين مستخدماً اسمها التاريخي القديم «أوال» فأطلق عليه لقب «عاشق أوال»، إضافة إلى لقب «شاعر الطبيعة» بسبب قصائد نظمها تغنى فيها بطبيعة البحرين.
كانت لشاعرنا مساجلات كثيرة مع عديد شعراء البحرين مثل عبدالرحمن قاسم المعاودة، وتقي البحارنة، وأيضاً مع بعض شعراء الخليج العربي مثل الشاعر الكويتي، محمد الفايز، والشاعر السعودي، عبدالرسول الجشي، إضافة إلى صديقه وزميل دراسته في المرحلة الثانوية الشاعر الدكتور غازي القصيبي، الذي قال عنه في معرض الحديث عن شاعريته: «هذا الشاعر يذكرك بوجد شعراء نجد بهضابها ونسيمها.. كما يذكرك بشعراء الرومانسية ودعوتهم إلى الانطلاق في أحضان الطبيعة ومواخاتها.. تحس أنك تود أن تنطلق إلى أحضان الربيع.. أن تذوب في الطبيعة.. وإن هذه النزعة من الهيام بالطبيعة لنادرة في الشعر العربي المعاصر».
كان الشاعر الشيخ أحمد آل خليفة عاشقاً للفن والطرب الأصيل، وعازفاً ماهراً على العود، حيث روي عنه عشقه وهيامه بصوت وألحان وأغاني الموسيقار محمد عبد الوهاب، فلما مات الأخير حزن عليه كثيراً ورثاه بقصيدة خاصة. وبطبيعة الحال، كان للغزل والحب نصيب من أشعار الشيخ أحمد، حيث كتب أحدهم في هذا السياق قائلاً: «تتجلى امتداداته الشعرية بين احتفاء صاخب بتفاصيل العشق الحلال، ورسم تجاربه على لوحات غزلية وألوان صارخة الحرارة، لتبدو حاضرة في المشهد الشعري البحريني، منقوشة بمفردات الطبيعة التي تزينها كيمياء الشعر العربي».
أوسمة
نال الشاعر الشيخ أحمد آل خليفة، خلال مسيرته الأدبية، العديد من الأوسمة والتكريمات، من أهمها: وسام «البحرين» من الدرجة الأولى في أكتوبر 2002، ووسام «التكريم» من قادة مجلس التعاون لدول الخليج العربية في مسقط عام 1989، كما فاز في المسابقة الأدبية للقصيدة النبطية التي أعلنها الملك حمد بن عيسى آل خليفة، عندما كان ولياً للعهد في أبريل 1979، ونال شهادة تقديرية من «بيت القرآن» بالمنامة على ما قدمه من دعم ومساندة وعطاء لهذا المعلم، وتم منحه العضوية الفخرية لنادي «المحرق» الرياضي في فبراير 1990.
وفي 23 أبريل عام 2002 تم تكريمه من قبل وزارة التربية والتعليم البحرينية بحصوله على درع إدارة المكتبات العامة بالوزارة في اليوم العالمي للكتاب الذي يصادف ذلك التاريخ من كل عام، وذلك عن فوز ديوانه «عبير الوادي» كأحد أبرز النتاجات الفكرية البحرينية المتميزة.
نصيحة
تميز الشاعر بالتأني في نشر إصدارته، عملاً بنصيحة أستاذه العريض، وفق ما أشار إليه الراحل في حواره مع «الأيام»: «تعلمت درساً من أستاذي إبراهيم العريض الذي كان ينصحني قائلاً: (ضع القصيدة تحت الوسادة 3 أيام) قبل نشرها من أجل ضمان الوحدة الفنية».
شبهه الدكتور عبدالرحمن بوعلي في مقال نشره بصحيفة «أخبار الخليج» البحرينية في مارس 2018 بالشاعر الداغستاني رسول حمزاتوف، لجهة تخصيص جل شعره لوطنه، ووصفه بـ«المتحدث الرسمي بلسان قلب البحرين ونخيلها وبحرها وترابها وكل جمالياتها»، وقال:«كان مفكرًا في ثوب شاعر، وعاشقًا في ثوب مفكر، ومواطنًا مدركاً أن مواطنته لا تكتمل إلا بالشغف المتناهي بالوطن والتبجيل اللامحدود لكل أشيائه وتفاصيله وشؤونه وشجونه، لذا فعشقه للبحرين لم يتوقف عند طبيعتها وبيئتها، وإنما عشق طيبة أهلها وتنوع مصادر ثقافتها».