في تاريخ دولة الإمارات ثمة شخصيات ملهمة وجريئة وجديرة بالتقدير والإجلال، كونها برزت في البدايات المبكرة للكيان الاتحادي الذي أسسه المغفور لهما الشيخان زايد بن سلطان آل نهيان، وراشد بن سعيد آل مكتوم، رحمهما الله، فكانت خير داعمة لهذا الكيان في مجالات حيوية شملت التجارة والصناعة والتعمير والثقافة والأدب، إضافة إلى أعمال البر والإحسان التي توسعت دائرتها فتجاوزت الحدود إلى خارج جغرافية الدولة.

من هذه الشخصيات، التي انتقلت إلى جوار ربها في الرابع من يناير سنة 2000 من بعد 75 سنة حافلة بالعطاء، المرحوم سلطان بن علي العويس الذي تحدثت عنه صحيفة الخليج (4/1/2013) قائلة: «المبدعون يبقى حضورهم ماثلاً لا ينقطع أو يخفت في وجدان أوطانهم، بل في وجدان العالم أجمع، وتبقى سيرتهم ملهمة للأجيال يتعلمون منها الإبداع والتواضع تارة، والجد والنجاح وعشق الوطن تارة، والإيثار ومحبة الآخرين تارة أخرى، لكن بعض المبدعين يحملون هذه الصفات جميعاً، ما يجعل من سيرهم نبع صفاء ننهل منه من دون ارتواء أو اكتفاء». وفي مقال آخر للصحيفة نفسها (1/4/2015) وصفته بصاحب الحياة المكرسة للإبداع. غير أن هذا الوصف لا يغطي سوى جانب واحد من حياة الرجل كما سنتبين لاحقاً.

تجربة ثقافية رائدة

لم يكن العويس مجرد مثقف واع، وشاعر رقيق من شعراء الحب والجمال، وأديب فذ فحسب، وإنما كان أيضا تاجرا سخر ثروته التي جمعها بالكد على مدى سنوات عمره الصعبة والمتعرجة للإنفاق على المجالات الإنسانية والاجتماعية والثقافية من خلال مؤسسة ثقافية خاصة حملتْ اسمه، ألا وهي مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية (دار سلطان) التي صارت جائزتها السنوية للمبدعين واحدة من أهم الجوائز الأدبية والفكرية والعلمية على المستوى العربي، منذ أن تم إطلاقها في عام 1987، علما بأن المؤسسة وجائزتها كانتا في البدء تحت إشراف «اتحاد كتاب وأدباء الإمارات» قبل أن تتحول إلى كيان ثقافي مستقل، بموجب المرسوم الأميري رقم 4 لعام 1994 والصادر آنذاك عن ديوان سمو الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، ما أتاح لها الفرصة لتشكيل هيكلها الإداري والسير نحو بناء تجربة ثقافية رائدة.

سيرة حياة

ولد العويس سنة 1925 في إحدى حارات منطقة الحيرة بالشارقة، وفيها تلقى تعليما أوليا قبل أن ينتقل إلى دبي ويتعرف فيها على رموزها وفعالياتها الأدبية والتجارية. كان ميلاده في أحد بيوتات العلم والأدب المكتنزة بالكتب المتنوعة التي كانت تحتضنها مكتبة أسرته التي نبغ وبرز فيها عدد من الشعراء والأدباء مثل: الشاعر المعروف سالم بن علي العويس والأديب أحمد بن علي العويس والمؤرخ عمران العويس.

أما والده «علي بن عبدالله العويس» فقد كان من «طواشة» الإمارات والخليج المعروفين والماهرين ممن راح يمارس تجارة اللؤلؤ، شأنه في ذلك شأن رجالات زمنه، وهو ما جعله من الأثرياء قبل انهيار أسعار اللؤلؤ وخفوت بريقه، وهو أيضا ما جعل ابنه سلطان يرافقه في رحلات الطواشة وهو لم يزل طفلا صغيرا في حدود العاشرة من عمره، قبل أن ينفرد الرجل، بعد وفاة والده، بالسفر إلى أسواق الهند التجارية المزدهرة ويتزود من خلالها بدعامتين ساهمتا لاحقا في تأدية ومواصلة رسالته الثقافية والاجتماعية. ولم تكن هاتان الدعامتان سوى اكتساب الإنجليزية ولغة الأوردو والمعرفة والاطلاع على شؤون العالم الخارجي ومظاهر العصرنة والتمدن، ثم اكتساب المال والثروة من الاتجار في المواد الغذائية والكماليات هندية المنشأ. وبعبارة أخرى غدا ذلك الشاب الذي أنهكته رحلات البحر، وكانت أقصى أمانيه امتلاك سيارة خاصة وفيلا سكنية أنيقة تاجرا يملك من المال ما يفيض عن حاجته بسبب إصراره على النجاح والتفوق وخوض غمار التحديات بعزيمة لا تلين.

رحلة الكد والشقاء

والحقيقة أن رحلة العويس في الطواشة والتجارة لم تكن مجرد نزهة، وإنما صاحبها الشقاء والتعب والكدح اليومي. وفي هذا السياق نقتبس فقرة مما كتبه عبدالإله عبدالقادر في صحيفة البيان (6/1/2013). ونصها (بتصرف): «لا بد من التوضيح هنا، خصوصاً وأن الكثيرين يجهلون ما تعني الطواشة، أنه طبقاً لمستلزماتها وأعرافها، كان الصبي من هؤلاء، مضطراً إلى أن يرحل بسفينة صغيرة، إلى مغاصات اللؤلؤ، بغرض أن يشتريه، وكذا ليبيع الغواصين، ما يحتاجون من مواد تخص قوتهم اليومي، من خبز وماء، وحلويات، وغيرها. وحدث ذات مرة، أن سألت مذيعة قناة LBC سلطان العويس عن فترة عمله في الطواشة، خلال مقابلة خاصة. فقالت مبتسمة: (لا بد أنك كنت تستمتع وأنت طواش تجمع اللؤلؤ...). ثم أردفت: (ما معنى الطواشة...؟). فأجابها، بعصبية، غير معروفة عنه: (الطواشة أكل تبن.. ليست مهنة سهلة، لكن المرأة لا تجد أمامها إلا اللؤلؤ البراق، فتفتن به، من دون أن تدرك المخاطر التي كان يتعرض لها الباحثون عن اللؤلؤ، من الغيص حتى الطواش، وكل العاملين في سفينة البحث عن اللؤلؤ، الحالمين بدانة كبيرة تعوضهم كل معاناتهم في بحر غادر، قد لا يعود منه العديد ممن سلكوه).

ريادة أدبية وتجارية

قلنا إن العويس ترك الشارقة واستقر في دبي. وفي الأخيرة تعرف على رموزها وفعالياتها الأدبية والتجارية، من خلال مجلس أطلقه لاحقاً في حي الحمرية، حيث كان المجلس من أهم الملتقيات الثقافية التي تجمع محبي الثقافة والأدب ومتعاطي الشعر في الإمارات. عدا عن هذا، ساهم الرجل في العديد من الأعمال والأنشطة التنموية المبكرة في دبي، فقد افتتح عدداً من المدارس ودور العلم، وساهم في تأسيس أول مصرف وطني في دبي ألا وهو «بنك دبي الوطني» الذي تولى رئاسة مجلس إدارته لسنوات حقق خلالها البنك أرباحا كثيرة ومواقع رائدة ضمن المصارف العالمية مع انتشار فروعه الخارجية في عشرات الدول. كما شارك الرجل مع آخرين في تأسيس غرفة تجارة وصناعة دبي وصار عضواً في مجلس إدارتها لعدة دورات، وترأس مجالس إدارة عدد من الشركات المساهمة أو حمل عضويتها لسنوات متواصلة. إلى ذلك كان للعويس دور الريادة في تدشين العديد من المعامل والمصانع غير المسبوقة في إمارة دبي مثل مصانع تعبئة المياه الصحية ومعامل المشروبات الغازية كالبيبسي كولا والمخابز الأوتوماتيكية العملاقة ومصانع الأسمنت ومعامل الزيوت والمنشآت العمرانية الحديثة وغيرها. كل هذا في دبي وحدها، أما في خارج وطنه فقد ساهم في إقامة السدود وتشييد المستشفيات والمصحات وتدشين كليات العلم المتخصصة مع تزويدها بأحدث الأجهزة التكنولوجية. وفي هذا السياق كتب عبدالإله عبدالقادر في صحيفة البيان (مصدر سابق): «يرتبط تناول موضوع الإسهامات الإنسانية للراحل سلطان العويس، بجدلية طبيعة الإنسان في المراحل الأولى لتأسيس دولة الإمارات، أو بالجانب التاريخي لها. إذ اتسم ذلك العصر بوجود بناة عمالقة غير تقليديين، قهروا ظلام تلك الأزمنة، وتعاونوا على بناء دولة تميزت بتوازناتها وانفتاحها، بل وفي أيديولوجيتها وفلسفتها وتوجهاتها، وارتباطاتها بالمحددات الدينية وبالثوابت المنضوية في مجموعة القيم والأخلاق».

خصال ومساهمات

الذين عرفوا العويس عن كثب أشادوا بخصاله، ولا سيما خصلة التواضع التي اشتهر بها. فقد كان رحمه الله من أولئك الذين لم يغيرهم الثراء والجاه، فظل نموذجاً بسيطاً في مظهره، متواضعاً في حياته، وديعاً في تصرفاته، عظيماً في أخلاقه، شفافاً في معاملاته. ومن ناحية أخرى شهد له كل من عرفه بأنه في كل مساهماته الخيرية والإنسانية داخل الإمارات وخارجها، والتي كانت تتم دون بهرجة أو صخب إعلامي، كان ينطلق من بيت الشعر القائل:

نفسي التي تملك الأشياء ذاهبة = فكيف أبكي على شيء إذا ذهبا.

وبعبارة أخرى كان مفهوم السعادة عند العويس لا يكمن في مراكمة الأموال وزيادة الأصفار في الحسابات المصرفية، وإنما في الإنفاق على ذوي الحاجة وعلى متطلبات إسعادهم وتيسير حياتهم، علاوة على الإنفاق على العلماء والمبدعين وأصحاب المشاريع المؤدية لنهضة حقيقية أو أي إنجاز إنساني يخدم البشرية. حيث كان الرجل من أشد المؤمنين بأن الأموال لا تذهب مع صاحبها إلى العالم الآخر، وإنما تبقى آثارها في الدنيا وتذهب حسناتها لصاحبها في حياته الجديدة. وفي رأي الشاعر والأديب اليمني فضل النقيب أن العويس «من عنفوان التمسك بما يراه حقاً، وضد ما يعتقده باطلاً، كان لا يبالي بالعواقب مهما كانت، لذلك كان في بساطته قوياً، وفي وداعته حازماً، وفي تواضعه في الذروة من الشرف وصيانة النفس، وقد جمع كل ذلك في إهابه النحيل الذي لم تبطره النعمة، ولم يستنزفه الهوى».

إبداع أدبي وشعري

أما فيما خصّ إبداعه الأدبي والشعري، فقد بدأ العويس كتابة الشعر منذ عام 1947، لكن أول قصيدة نشرت له كانت في عام 1970 من خلال مجلة «الورود» البيروتية. وسرعان ما انتشر شعره وذاع صيته محليا وخليجيا وعربيا، وتداولت الأوساط الأدبية في لبنان وسوريا ومصر نتاجه الأدبي المتسم بالصدق وسحر البيان، الأمر الذي أثمر عن ارتباطه بالعديد من الشعراء العرب البارزين وتبادل الزيارات معهم، فكان رحمه الله خير سفير لبلاده في المحافل العربية الأدبية، وأفضل معرف ومروج للأدب الإماراتي. ومما سجل عن الأديب السوري الكبير حنا مينا حينما بلغه نبأ وفاة العويس قوله: «وأنا أقرأ نبأ وفاة المغفور له بإذن الله، الشاعر الرقيق والشفاف غزلاً، الدمث الطيب خلقاً، الأريحي بناناً وجناناً، سلطان بن علي العويس، تعتادني ذكرى ذلك اللقاء وتلك الاحتفالية، وتتردد في خاطري قولته بالغة اللطف عجيبة الدلالة خارقة المألوف، أشكرك لأنك قبلت جائزتي، فأضع رأسي بين كفي بينما الدمعة تتحير في المقلتين».

الذين بحّـروا في شعر العويس، رغم قلته، أشادوا بموهبته واعتبروه حلقة الوصل بين جيلين من الأدباء والشعراء، بل وضعوه في مقدمة شعراء الغزل في الخليج العربي ممن لامسوا أوتار القلوب دون تكلف. أما لجهة الموضوع، فهو لم يكتف بالقصيدة الغزلية وإنما أضاف إليها القصيدة الوطنية المعبرة عن آلام أمته وواقعها المرير، والقصيدة الإنسانية المترجمة لما في ذاته من مشاعر إنسانية تجاه المعذبين والمحرومين والمكلومين.

يقول في قصيدة بعنوان «وقفة»:

صريع الهوى بالمقلتين طريح وكأس المنى للعاشقين صبوح

يقول لي السمار كأسك فارتشف فما الفجر إلا ساعة ويلوح

فقلت شربت الحب كأساً فشدني إليه كما شد اللجام جموح

فيا حب زدني إنّ زادي وقفة مع الشوق أغدو في الهوى.. وأروح

مع الحب يا قلبي وأنت أسيرة وقاضي الهوى لو تستفيق شحيح

ويقول في مخاطبة المعشوقة:

لو لم تضيئي حياتها عند ظلمتها = لكنت ذا بصر يمشي بلا بصرِ

يا فتنة ملأت دنياي فتنتها = أسقيت دفقاً فأنت الحكم فأتمري

ويقول في الوصل والصدود:

جمال الحب أن تلد الليالي = وصالاً بعد آلام الصدود

تغلغل الحب حتى صار لي نفساً = أعيشه نغماً في موكب العمر

مملكة للعشق

كتب فضل النقيب عدة حلقات عن شعره فقال في إحداها: «أقام سلطان العويس مملكة للعشق في عالم الشعر، وقد نذر نفسه وشعره لصيانة هذه (اللؤلؤة) الإلهية التي فاخر بها لآلئ البحار الصافية والفاتنة»، وأردف قائلاً: «ولأنه قال الشعر الذي نشره بعد الأربعين، فإنك لن تجد في شعره تلك العنتريات الممجوجة، التي لا تنتمي إلى عالم المحبة المضيء، وإنما هي بعض إفرازات عقد الذكورة. وأراني مجازفاً إذ أنسب هذا الصفاء إلى مرحلة عمرية معيّنة، فمما لا شك فيه أن نفس الشاعر كانت عامرة بهذه المشاعر الإنسانية النبيلة تجاه المرأة بالفطرة».

ثم راح يستطرد ويقول: لقد كان بإمكانه بما وهبه الله من واسع الثراء، وبسبب من طبيعته المحبة للجمال، أن يهدم المعبد كل يوم ويعيد بناءه، ولكنه أخلص إخلاص المحبين المتعلّقين بأستار الحب، والقابلين لتكاليفه وشروطه، فلم يسئ لمن أحب، بل إنه لم يسئ حتى لمن أساء إليه، وشعره شاهد على هذا المعمار الجمالي الروحي الآسر، الذي لم يقبل مجرّد المقارنة بين جبروت المال وعطاء الحب، لذلك لم يقل كما قال نزار قباني:

بدراهمي… لا بالحديث الناعم = حطّمتُ عزّتك المنيعة كلّها بدراهمي

وإنما قال العويس (العاشق والثري فعلاً لا مجازاً مثل نزار):

إليك مالي، فما مالي سوى ورق = لن يؤثر المال قلب قد سكنتيه

لي من عيونك أموال أكدّسها= ومن حديثك درٌ لست أحصيه

وفي حلقة أخرى كتب النقيب قائلاً: سيدخل فقيدنا الراحل سلطان بن علي العويس تاريخ الشعر العربي بوصفه واحداً من سلاطين العشق، وحداة الحب، وشعراء الهوى. وكانت للرجل رؤية تنظر إلى الحب بصفته أجمل معطيات الحياة، وأعظم هداياها، وأرق ينابيعها، وأشدها فتنةً وسحراً». ثم استشهد على ذلك ببيت من شعر العويس يقول فيه:

(فلولا الحب ما ائتلفت قلوبٌ = ولا دارت كؤوس حول عود)

ليعود ويقول: والحب في عرف الشاعر، وجود لا حدود له، يفاجئ المرء بالعجائب، ويغريه بالإبحار، ويداهمه بالأخطار، كما يكافئه بالوصال، فهو معه بين مد وجزر، وبين ضحكٍ وبكاء، بدليل قوله:

أنا قلب تجاوره شفاه = لتسقطه على السهد المذاب

أسيراً أو جريحاً أو قتيلاً = وتلك سعادة القلب المصاب

شخصية بكل هذه التجارب الرائدة والأعمال الجليلة والصفات الحميدة، معطوفة على النبل والتجرد والزهد في المناصب الرسمية والأضواء الإعلامية استحقت عن جدارة التكريم الذي ناله من مؤسس دولة الإمارات المغفور له الشيخ زايد بن سلطان يوم أن أصر سموه على تواجد العويس جنباً إلى جنب مع حكام الإمارات السبع في لقطة تذكارية بعد منحه وشاح الإمارات.