غادة السمان من فرسان القلم الذين تميزوا بغزارة إنتاجهم، وكتبوا بحبر دمهم وصدق وجدانهم، وعنفوان اندفاعهم ليأتي أدبهم غنياً بتنوعه، وبرؤية نقدية فلسفية بعيدة عن الاستعراض، تدفع القراء إلى إعادة التأمل في ذاتهم ومحيطهم.

وتدفع النقاد المختصين إلى تقديم دراسات مستقلة حول أعمالها التي تناولت فيها علاقة الإنسان العربي بمحيطه، زماناً ومكاناً، بدءاً بالأسرة وانتهاء بالمجتمع، والأسس الثابتة والمتحولة والمتلونة التي تحكم العلاقات وما يهددها.

حوار »البيان« مع غادة السمان البعيدة في مقر إقامتها (باريس)، له نكهة خاصة تتجلى في تداعيات الكلام وعمق التحليل وحالة إبداع الأديب.

معظم الكاتبات في العالم العربي، أبطالهن من النساء، أما أنت فتحكين في العديد من رواياتك وقصصك بلسان الرجل وعوالمه الداخلية، لماذا؟

سؤالك هذا يطرح إشكالية أدبية مهمة حقاً.. واسمحي لي بالدفاع على نحو غير مباشر عن زميلاتي الأديبات. فمن حق الكاتب اختيار بطله.. سواء اختاره من الجنس المؤنث أو المذكر..

وكما احتفينا برواية »مدام بوفاري« لمؤلفها (الرجل) غوستاف فلوبير واحتفينا برواية »آنا كارنينا« لكاتبها ليو تولستوي واحتفينا بنزار قباني حين كتب العديد من قصائده بلسان أنثى كما في قصيدته »كلمة عجلى.. هي أنني حبلى«، كما احتفينا بذلك كله من حقنا الانحياز إلى حرية الكاتبة/ الكاتب في انتقاء البطل.

المقياس النقدي ليس أولاً »ماذا نكتب« ومن بطلتنا / بطلنا بل »كيف نكتب«. للفنان الحق في اختيار بطلته/ بطله ومن حق القارئ عليه مطالبته بالإبداع.. ومن حق الكاتبة أن تكون بطلتها امرأة، شرط ألا تخلط بين الرواية كعمل فني ودفتر مذكراتها، أي أن تنجح في الخروج من »الذاتي« إلى »الفني الإبداعي«.

همومنا واحدة

ما هي الأسباب والعوامل التي مكنتك من الكتابة عن مكنونات الرجل الداخلية وآلية تفكيره؟

من طرفي أجد في الرجل العربي مناجمَ للكتابة، ولا يمكنني تجاوزها لمجرد صدفة بيولوجية هي أنني أنثى! فأنا حين أمسك بقلمي أصير مواطنة تكتب بإنسانيتها.

الرجل العربي منجم جماليات وتناقضات وشرور ونبل وعطاءات لها جذورها في تراثنا وتاريخنا الحضاري.. وكل ما أفعله أنني أغرف من المنجم بدلاً من الدخول إلى شرنقة همومي كأنثى »دون أن أنكرها« بل وأعلنها، ولكن في ضفيرة متشابكة مع هموم رفيقي المواطن الذكر..

المطلوب فقط ألا تشعر الكاتبة أنها محور العالم، والذكور مجموعة من »المروضين« للأنثى في »سيرك« الحياة العربية والاجتماعية.

الرجل العربي كنز من القدرة على الحب والوفاء والألم والندم والطموح والصمود والانكسار واللاشكوى والمكابرة.. والعطاء الإبداعي أيضاً.

وكروائية، لم يكن بوسعي الإشاحة بوجهي عن أحزان الرجل العربي وهمومه وهواجسه ومخاوفه ومعاناته وجمالياته وشروره، لم يكن بوسعي إهمال ذلك كله لأنني كاتبة لها همومها »كأنثى عربية«.. فهمومنا واحدة المنبع وإن كانت المرأة في عالمنا العربي كادحة الكادحين ومظلومة المظلومين، ولكن ذلك لا يقوم عندي بالتعتيم على هموم الرجل العربي وسوء التفاهم بينه وبين بعض الكاتبات.

وثمة (ذكور) اختاروا مواقعهم: زوجي مثلاً - رحمه الله- كان يغضب إذا عاد إلى البيت ووجدني خلف »طاولة المطبخ« بدلاً من »طاولة الكتابة«. كان إنساناً رائعاً له فضل كبير على أبجديتي وساعدني كثيراً بدعمه لي.

مجنوني (فرح) في روايتي »بيروت 75« الذي هرب من مستشفى المجانين واقتلع عن بابها لوحتها ونصبها في مدخل بيروت لم يخطئ، إذ انفجرت الحرب اللبنانية بعد صدور الرواية بأشهر.

ومصطفى الصياد في الرواية يمثل غضب جيل على اللاعدالة والأمثلة من رواياتي تطول عن أبطالي الذكور الذين يمثلون قيماً في حياتنا العربية وهم أحياء في رواياتي لا مجرد لافتات إعلانية. وخليل في روايتي »ليلة المليار« أكثر إنسانية من زوجته الجميلة »كفى« وعانى الكثير ليصرخ بصدقه في وجه الجميع.

ناقدة قاسية

تناولت في أعمالك عوالم المرأة والرجل والمدن والعلاقة فيما بينهم. هل هناك محور من الحياة لم تتناوليه بالعمق الذي تناولت به تلك المحاور؟

ثمة دائماً ما أتمنى كتابته، ولذا ما زلت مستمرة في الكتابة منذ ألف عام. لم أشعر يوماً بالإعجاب بما أخطّه، وكل ما كتبه النقاد ضدي حتى اليوم هو أقل من النقد الذي أوجهه لنفسي، فأنا الناقد الأكثر قسوة على غادة.. ولكنني أحاول.. وأستمر.

في كتابك »القمر المربع قصص غرائبية« 1994، وردت عبارة على لسان إحدى شخصياتك النسائية التي كانت تقف في الطابور للحصول على إقامة في فرنسا، »آه.. لا يجمع العرب إلا نظرتهم المتخلفة إلى المرأة«. فهل تطورت أو ارتقت شخصية الرجل العربي في أعمالك الأخيرة، أو ما هو نوع التحول الذي طرأ عليه؟

لا نستطيع محاكمة الكاتب على جريمة ارتكبها أحد أبطال قصصه، وبالتالي لا نستطيع أيضاً أن نعتبر عبارة تفوهت بها بطلة في قصة في لحظة ما في موقف معين ممثلة لآراء صاحب/ صاحبة النص.. وجهة نظر المؤلف نستشفها من روح النص ككل ومن روح مجمل أعماله.

ولولا ذلك لكان بوسع أي محكمة الإلقاء بي في السجن لجرائم اقترفها أبطال رواياتي وقصصي، ناهيك عن أقوال غير محببة كصرخة أحد أبطال »ليل الغرباء«: »كل دار مريحة هي وطني«.. وذلك المسكين كان قد غادر دهاليز تعذيب رفاق الأمس له. وكان سيتحدث كذلك حين عاش في لندن.

الأبطال عندي ليسوا »حنجرة مستعارة« لي، أقول عبرهم ما لا أجرؤ على قوله في حياتي اليومية. إنهم شخصيات تولد، تستقل، تتابع حياتها في الرواية بمعزل عني، وأحياناً ترغمني على تبديل الخاتمة التي كنت قد قررتها، وتحاكمني أحياناً بل وتحاول اغتيالي كما فعل أحد أبطال روايتي »سهرة تنكرية للموتى« ..

حيث يتعايش الأحياء والأموات في شوارع بيروت، وتلتقي إحدى بطلات الرواية بالأشباح وتجلس معهم في المقاهي ويبدو الأمر عادياً ومألوفاً.لا إبداع حقيقياً دون القدرة على إطلاق سراح الخيال.

الدورة الدموية للنص

تميز أسلوبك في السرد بمفردات أدبية بسيطة بعيدة عن اللغة الهزلية الاستعراضية، كذلك بالصورة والتوصيف الشعري مثل »ثمة مدن يتدفق الحب من أطراف أناملها الملونة بأحمر القرميد«. هل هذا التوصيف قصدي أم من سياق عفوية السرد وما هي منابعه؟

اللغة عندي ليست (كرنفالاً) استعراضياً (للشطارة) اللغوية، إنها من بعض الدورة الدموية للنص.. اللغة ليست غاية بحد ذاتها عندي. لدي احترام مطلق للغتنا العربية الأم، لكنني حرة في أسلوبي لعشقها.. ولا أحيلها إلى مهرجة بألوان باذخة وألعاب استعراضية، بل أتركها تنبع سلسبيلاً من العفوية الجمالية الملتحمة مع النص.

لا أحب التنميق اللغوي الخاوي من المضمون الإبداعي، ولا أرتاح إلى أدب »الكيتش« (محاكاة التأثيرات الناتجة عن تجربة واقعية)، ولا إلى إهانة اللغة باستعمالها »كأكسسوار« تأنق. احترام اللغة يكون بعدم استعمالها أداة لسرقة إعجاب رخيص.

حراس الصمت

ما نعرفه أن الكثير من الطلبة قدموا أطروحات في أدبك، ولكن هل وصلتك عروض لتحويل أحد أعمالك إلى فيلم سينمائي أو مسلسل تلفزيوني؟

روايتي "فسيفساء دمشقية" صارت فيلماً سينمائياً من إخراج سمير ذكرى ويحمل عنوان الفصل الأخير من الرواية وهو "حراس الصمت". وتم عرضه في أحد مهرجانات السينما، لكن الظروف السياسية العربية حالت دون توزيعه على دور السينما العربية.

قصتي "فزاع طيور آخر" تحولت إلى مسلسل إذاعي في 13 حلقة. وتحولت قصتي "أنياب رجل وحيد" إلى مسلسل تلفزيوني، والأمثلة تطول. بالمقابل أعترف أنني لم أتابع يوماً هذا الجانب المهم من تعريف الإنسان العربي على أعمالي. والسبب ببساطة هو تقصيري "الجميل" في هذا الحقل. كل ما يعنيني هو أن أكتب وأكتب وأكتب الآن وأنا في هذا الكوكب والبقية تأتي ..

وثمة حكاية طريفة حول روايتي "السقوط إلى القمة" التي أعلن نزار قباني في مجلة الآداب عن إصدارها كباكورة لدار نشره التي أسسها حينها، إلى جانب ديوان جديد له. واتفقت مع نجمة مصرية على تحويلها إلى فيلم، وأعلنت هي عن سرورها بذلك، ثم أضعت المخطوط في أحد المطارات، وبالأحرى تمت سرقته. وأتخيل دائماً خيبة السارق الذي لم يجد في الحقيبة نقوداً.

القارئ والحقيقة

تميزت أعمالك بالتركيز على تناقضات الإنسان الداخلية مع غياب شخصية سوبر بطلة أو بطل. هل مثل هذا التناول العميق يشكل تحدياً أكبر للكاتب؟

ربما، بل أنت على حق.. فالسوبر بطل يسهل تصويره لأنه ينتصر باستمرار، وبالتالي يريح الكاتب من رسم "تناقضات الإنسان الداخلية" كما تقولين، ويجعله قوياً جباراً لا يشبه إلا نفسه ولديه الحل السحري للأمور لها. لكني لم أختر يوماً مع الأبجدية الحلول السهلة بل الصادقة مع نفسي وأبجديتي والقارئ والحقيقة الإنسانية.

"السوبرمان" أسطورة، ولكننا ببساطة "بشر" وذلك كما تقولين برهافة يشكل تحدياً أكبر للكاتب، لكنه بالمقابل كما أرى يمنح عمله نبرة الصدق الداخلي.

لنعترف: كلنا بشر، لدينا نقاط قوتنا وضعفنا. الحب هو أن نقبل الآخر كما هو فتبديله مشروع (تجاري) خاسر غالباً حتى ولو توهمنا في فترة (شهر العسل) الفكرية أننا كسبنا المعركة. الآخر يمكن له أن يتبدل إذا بدل قناعاته من الداخل، ويمكن أن يحدث لنا ذلك في الوقت نفسه ولا نلتقي من جديد!

العلاقات البشرية شبكة عنكبوتية من الأسلاك المكهربة، وذلك من حسن حظ الروائي فلديه مغارة ملونة بقوس قزح: الأمزجة والطبائع والأفعال اللطيفة الفتاحة والشرسة البريئة.. ذلك المزيج المتفجر في دهاليز تقود إلى دهاليز مادة الأدب من شعر ورواية وقصة وغير ذلك من أساليب قد يخترعها الجيل الجديد.

ماذا تكتبين الآن؟

أكتب مذكراتي. ولأنني عشت عدة "حيوات" في أقطار عربية وأوروبية، ستقع مذكراتي في عدة أجزاء: دمشق/ بيروت/ لندن/ جنيف/ باريس. وأنوي نشر مختارات منها في منبر صحفي ما، لم أقرره بعد.

القراءة كالحب

أُعلن في الإمارات العام الجاري عام القراءة على المستوى المحلي والعربي، هل يمكنك إفادتنا بدور القراءة في حياتك ككاتبة وإنسانة. وما الذي تضيفه لشخصية الإنسان؟

- القراءة كالحب، تأتي أو لا تأتي. ومن الجميل استثارة المحرضات لها، لأنها تعني مد الجسور الإنسانية والتعارف بين البشر مما يجعل (سوء التفاهم) بينهم أقر شراسة، بل وقد يقودهم إلى التفاهم أو على الأقل إلى الحوار الإنسان البعيد عن العنف؛ فالأبجدية لا تحمل المدافع الرشاشة بالضرورة ولا المتفجرات. العنف اللغوي قد يقود إلى الحلول السلمية الإنسانية بعيداً عن "مصانع الأرامل"!

50

كتاباً في الرواية والشعر وأدب الرحلة والنقد الأدبي والاجتماعي والمحاورات الأدبية وسواها

20

كتاباً صدر عن أدبها بعضه مترجم إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية

19

لغة ترجمت إليها أعمالها منها الألمانية والهولندية والروسية والسويدية والصينية