عاشت تركيا صدمة كبيرة بعد انقلاب الحرف من العربية إلى اللاتينية في عام 1928م، وبموجبِ قانونٍ ودستور، لتصبح اللغة التركية مكتوبة ومقروءة بحروف لاتينية، ويصبح الانتماء للحروف الجديدة المداهِمة والسريعة صعباً، وبحاجة إلى ألفة واعتياد، ورغم أن كلا الحرفين العربي واللاتيني، ليسا تركيين، حيث لا أبجدية للأتراك، لكنه اعتيادٌ بعد استخدام قرون، وقد فضل أتاتورك صانع تركيا الحديثة استبدال الحروف العربية واعتياد الحروف اللاتينية للتقرب من أوروبا بقوانين حديثة للدولة ودستور جديد يواكب الحداثة في العالم الحديث.
عربي أم عثماني ؟
تطبق الحروف وتُفَعّل، وبعد عشر سنوات من هذا القانون كانت تركيا بأكملها تطبق في مدارسها وهيئاتها وجامعاتها وتعاملاتها الرسمية الحروف الجديدة، بعد إلغاء الحروف العثمانية، والتي هي عربية، ولا أعرف لماذا هذا الترفع عند الأتراك عن تسميتها بالحروف العربية؟
لا أوروبية ولا إسلامية
توقف الخط العربي عن تطوره الفني بعد ذروة من تاريخه وإبداعه في زمن الإمبراطورية العثمانية، وكان تشجيع السلاطين المغدقين على الخطاطين الهدايا والأموال لقرون طويلة قد جعل من الخط فنا تشكيليا بحد ذاته.
رحل أتاتورك عام 1938م ولم يجد الأتراك أنفسهم أوروبيين غربيين ولا شرقيين إسلاميين، عاد الخطاطون الموهوبون إلى الحرف العربي مجدداً، والذي هو بمثابة تراث وتاريخ لبلادهم، استخدموه دراسةً وعلماً وفناً وتجارة، خاصة بعد أن رؤوا كيف أخذ العراق يُطور الخط العربي في ظل حكومته الملكية، ليعودوا وبقوة لتراث حرفهم بعد أن ركدت وتراجعت في ظل كمال أتاتورك، حينها قاوم الخط العربي بجهود خاصة ومؤمنة، وإن كانت مهنة الخطاط مستحيلة بمؤسسات الدولة لكنها كانت ممكنة كمهنة فنية تُعبر عن تاريخ تركيا وثقافتها البعيدة.
تنقية اللغة
كان، ومن ضمن تلك الظروف أمام الخطاطين الأتراك الجدد، تحد كبير في الكتابة بالخط العربي وزخرفته بنقوش إسلامية شرقية عثمانية أمام قوانين الدولة الكبرى والمحاربة لكل ما يرتبط بالعثمانيين، سياسة وديناً وثقافة، وبالتالي لم يكن هناك دعم أو أي نوع من الاهتمام بهم، خاصة بعد تعزيز تركيا لغتها التركية والمستحدثة، ببذلها جهداً ضخماً لإبعاد المفردات الإسلامية والعربية من لغتها وتنقيتها بالتدريج تعزيزاً للتتريك.
كانت الجهود جبارة في تأسيس لغة تركية حديثة، عن طريق إبعاد المفردات العربية قدر الإمكان واستبدالها بمفردات غربية وإن لم توجد، فتذهب لمفردات تلك الأقاليم والدول غير العربية التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية، مثل: أذربيجان وأوزبكستان وتركمانستان، وقبل ذلك البحث في لغتهم التركية الأصلية تاريخياً، وقبل أن تتراكم عليهم المفردات العربية والإسلامية، ليستخدموا أصل لغتهم من جديد كتابة وتدويناً.
أزمة أدبية
أخذت تتبلور اللغة التركية الحديثة، بحروفها اللاتينية، وبقاموس جديد، لتخرج الدولة بالعمود الفقري للغتها. ليجد المبدعون أنفسهم أمام أزمات جديدة وكبيرة، إذ كان الانتقال كفيلاً بخلق حاجز بين الأجيال، وصعوبة بالتفاهم بين الأجداد والآباء والأبناء، فهناك لغتان وحرف جديد، وعلى أثر ذلك خرج الإنتاج الأدبي ثقيلاً ببداياته، شعراً ونثراً، بعد التعديل. حصل تغريب كبير، فمن حيٍّ إلى حيّ، باتت اللغة متباينة بين الأوساط البرجوازية وبين لغة الأدب التي ظهرت ثقيلة جداً، وكذلك طريقة التفكير، والمناطق الشعبية وأطراف الدولة.
ارضوي الشاعر
المحظوظون من الأدباء كانوا من الأتراك الرواة والكُتّاب، الذين كتبوا باللغة التركية الحديثة، أمثال رشاد نوري كنتين، رائد الواقعية النقدية برواياته المعاصرة، والروائية خالدة أديب.. وغيرهما، ولكن من الذين ظلموا في هذه القومية التركية الجديدة: الشاعر محمد عاكف ارضوي، الذي كتب النشيد التركي الوطني بالأبجدية العثمانية العربية، وكان أديباً درس الأدب العربي بجامعة اسطنبول بداية القرن، لكنه خدع بانتسابه لجمعية الاتحاد والترقي، التي كانت شعاراتها كما رآها هو فيما بعد أنها مشبوهة، حينها خاطب الناس رغم إيمانه بالحداثة: «أنتم لستم بعرب، ولا ترك، ولا بلقانيين، ولا أكراد، ولا قوقازيين، ولا شركس، أنتم فقط عبارة عن أفراد في أمة واحدة هي الأمة الإسلامية، وكلما حافظتم على الإسلام لم تفقدوا قومياتكم».
بدأت الأذواق الأدبية تتغير والاتجاهات الفنية تأخذ مسارها الحر في التعبير عن تصوير الإنسان الذي كان محرماً قبلها، وكذلك الحروف العربية أخذت تهجر الشعر والأدب.
الثلث والنسخ
في ظل كل ما يجري، شعر الخطاطون بقيمة ثقافتهم الكلاسيكية، فقد زين هذا الخط مساجدهم وألوان مصاحفهم ولوحاتهم المتميزة ومزاراتهم لقرون، من خلال خطاطين مهمين زخرفوا هذا الحرف الذي سكن وجدانهم، فعادوا للخط العربي بعزيمة ثابتة، واختاروا الثلث والنسخ من بين الخطوط العربية الستة، رغم كل هذا الانحسار الكبير والانقلاب اللغوي الذي أسقط مدارس الخط الكبرى في تركيا وجعل كل من يمتهنها خاسراً، فلا عودة للزمن العثماني، لكنها جهود جبارة نتج عنها نجاح ومسابقات دولية وتكريمات، وبالتالي معلمون وأساتذة ممن لديهم ثقافة تركية حديثة وإسلامية.
أورهان ولي قانيق وتيار الغريب
بعد الالتباس من تحول الحرف وتنقية اللغة بقاموس جديد، خرجت مدارس وتيارات، من أهم هذه التيارات الأدبية إن استطعت تصنيفها، هو تيار الغريب، لمؤسسه الشاعر التركي أورهان ولي قانيق، إذ قام بجرأة شديدة، وأعتبره شجاعاً في أنه غيّر البنية القديمة للشعر التركي، مبتعداً عن كل ما ينم عن ذوق قديم، مثل الاستعارة والتشبيه والمبالغة. تجاهل الأدب القديم كل شيء يتعلق به، كما تجاهل كمال أتاتورك كل ماضيه، فقام ولي قانيق باستخراج تعابير وجمل بسيطة بلغة حديثة، لينشأ تياراً بلغة تركيا الجديدة ليترك أثراً كبيراً في الشعر التركي. وكان ذلك في الفترة: بين 1940 وإلى 1950م.
كان تأثير هذا التيار الذي سمي بتيار الغريب، أي من الغربة، قادما من الغربة التي عاشها الأتراك بعد التحول اللغوي والأبجدي وعلاقتهم بأدبهم، وتبنى هذا التيار ولي قانيق فكان حجر المحك في الشعر التركي بخاصيته الهدامة والبناءة، وكأنها استعادة جديدة، وانتشال الشعراء من حزنهم لإنشاء شعر بأسلوب جديد، خاصة أنه كان متأثراً في بداياته بقوة الرموز في الشعر الفرنسي.
هذه التأثيرات على الأدب طورت الرواية واتجه الشعر للغة جديدة، والمسرح الذي يعشقه الأتراك اتجه لطرح قضاياه بعد خرافات وأساطير.
الأدب العثماني
نال الأدب العثماني اهتماماً لافتاً منذ بداياته، وبرأيي فإن ما ساعد على انتشاره في تلك القرون الطويلة هو اتساع رقعة الدولة العثمانية، خاصة الآداب الشعبية والمستخدمة بين الشعب، بالإضافة إلى أن الحكايات الشعبية كانت وسيطا بين الأدب العربي والأدب الفارسي، مما ساعد على انتشارها، فضلاً عن شيوع أدب العاشق الذي كان يقال بالأشكال الرباعية والأوزان التقليدية، كما لاحظتُ أدباً عثمانياً يدعى الأدب الديواني الذي يحمل الغزل ويحمل قواعد الأدب العربي والفارسي أيضاً، مروراً بأدب التكايا والرؤى الصوفية وطريقة الوصول إلى العشق الإلهي، والذي أصبح جسراً يربط بين ثقافات عديدة.
انتصار الرواية التركية
انتصرت تركيا الحديثة للرواية، لتأخذ بُعداً عالمياً، فقد كتبت باللغة الجديدة والحرف الجديد وبفكر مغاير ومراقب لروايات تشعبت في ثقافات مختلفة لتاريخ الأتراك وجذورها. كتبوا الأدب القديم باستقراء حديث، سواء من زمن السلاطين أو حتى المجتمع التركي الحالي بتياراته، وبما أن الغرب كان متعطشاً لقراءة الأدب التركي إجمالاً، خصوصاً أنه أدب مكتوب برؤية مختلفة ضمن الحرية المتاحة للكتابة، الأمر الذي جعل من الرواية التركية تأخذ دورها في اهتمام القارئ بها في كل أنحاء العالم. ولعل هذا الانتصار للرواية أتى بشكل أكبر بعد النصف الثاني للقرن العشرين لجيلٍ استوعب اللغة وتربى عليها.
استفاقة الخط العربي بعد أتاتورك
بعد نصف قرن من وفاة كمال أتاتورك، ظهر الخط العربي بشكل جديد ومميز تشجيعاً من أساتذة ومعلمين أتراك.. وخرجت نماذج متميزة من خطاطين وخطاطات ساهموا بالاشتغال على الابتكار والتميز منهم الخطاطة الإماراتية فاطمة سعيد. وعلى اثر هؤلاء قاموا بترميم نقوش المساجد الأثرية وواجهات المراكز الإسلامية، وكتابة مصاحف جديدة، كل تلك الأمور كانت كفيلة في استفاقة فن الخط واسترجاعه من جديد. وتركيا اليوم فخورة بأهم خطاطيها هو المعلم حسن الجلبي، والذي خرج على يديه مئات الخطاطين المتميزين في دورات عديدة لأجيال. المعلم حسن له الفضل في النقش والكتابة على المسجد الأزرق، خاصة على قبته الداخلية.
1876
لمست الإمبراطورية العثمانية رغبة الشعب التركي بتغيير اللغة، فأعلنت في دستورها، عام 1876، أن لغتها الرسمية التركية لا العربية.
20
أكثر من 20 حركة قومية وضعت أوائل القرن ال20 فكرة استخدام لغة مبسطة أخذت تدريجياً طريقها للتوسع، حتى طبقت الأبجدية اللاتينية.
104
يحتوي القاموس التركي 104 آلاف مفردة تركية خالصة، لكن دار نشر تركية أعدت قاموساً يحتوي 246 ألفاً،بعد أن وضعت المفردات غير التركية والمستخدمة.