أشرنا في أكثر من مقالٍ في ما مضى إلى أهمية الرواية الشفهية في تأريخ الأحداث، وفي تسجيل الوقائع، وتثبيت الذكريات، وتأصيل الأخبار.

ومن خلال المقابلات مع الرواة نستخلص العديد من الشهادات التي ذكرها الآباء والأجداد، إذ ألمحوا إلى الكثير من التحولات والتطورات الاقتصادية والاجتماعية الحادثة في منتصف القرن العشرين بعد اكتشاف النفط في الكويت والبحرين والمملكة العربية السعودية. وفيها ظهرت تأثيرات الغنى والثراء على تلك البلدان، ونتج عن ذلك وضوح النقلات النوعية في الجانبيْن الاجتماعي والاقتصادي.

ونتج عن ذلك أيضاً قيام أهالي المنطقة، بالتوجه إلى تلك البلدان، رغبة في العمل، وسعياً لتحسين أوضاعهم المالية، خاصة بعد تدهور مهنة الغوص مع نهايات الحرب العالمية الثانية، ثم انحسارها عن إعاشة المجتمع المحلي في الإمارات، وعدم الاعتماد على هذه المهنة في الحياة الاقتصادية بالمنطقة، ثم تراجع الناتج الاقتصادي المعتمد على اللؤلؤ الخليجي.

وهنا تجب الإشارة إلى أن حدوث النقلات الاقتصادية الكبرى في بقية بلدان الخليج العربي، أسهم في تطويرها عمرانياً وصناعياً وتنموياً.

ومن الأمور اللافتة للنظر أن أهالي الإمارات وجدوا في بلدان الخليج العربية الأخرى مكاناً ووجهة للرزق خاصة وأنه تجمعهم مع أهالي الخليج عوامل كثيرة متشابهة، ويتوافقون معهم في كثير من المظاهر الاجتماعية، والعادات والتقاليد واللهجة والزي، بل وحتى في عادات الأكل والطبخ والسلوك، لذا فقد كانت تلك البلدان أكبر مُعين لهم في إقامتهم واستقرارهم.

أسرة واحدة

ومن الأمور الملاحظة، أن أبناء الإمارات كانو بمجرد أن يغادروا موانئ الإمارات، ويلتقون على ظهور المراكب فإنهم مباشرة يصبحون أسرة واحدة من لحظة المغادرة إلى وصولهم إلى بلد المهجر الخليجي. ثم يستمر تواصلهم مع بعضهم في أماكن عملهم وإقامتهم ولقاءاتهم ومنتدياتهم .

وفي أوقات سمرهم، وفي أيام فرحهم ومناسباتهم وأعيادهم. فقد كانوا يداً واحدة متكاتفين، متراحمين، متآلفين، وكونوا بوحدة قلوبهم واتحاد نفوسهم، ما يشبه دولة الاتحاد، من قبل نشوئها في الواقع.

بدايات

كانت البدايات الأولى لرحلات العمل والإقامة لأبناء لإمارات إلى دول الخليج العربي مبكرة، وربما كان ذلك في أواسط عام 1948، ومن أهم الإشارات الدالة على ذلك ما ذكره المقيم السياسي البريطاني في البحرين في شهر يناير 1949، مِن أن كثيراً مِن سكان الإمارات كانوا يسعون للعمل في دول الخليج الأخرى.

ونظراً لتوافر فرص العمل والرواتب المغرية خاصة في شركات النفط العاملة في دول الخليج والمملكة العربية السعودية التي شهدتْ، حينها، إقبالاً من أهالي الإمارات، رغبة منهم في تحسين ظروفهم المعيشية.

وقابل ذلك رغبة في بلدان الخليج العربية في الأيدي العاملة. فكان الإماراتيون وإخوانهم العمانيون خير مُعين، وخير مَن يوثق به، وخير مَن يُؤتَمن، وخير مَن يُحسِن، وخير مَن يُحسَن إليه، وخير مَن يُتَعامُلُ معه، وخير مَن يُعامِل، وظهرت فيهم مخايل الأمانة، وعلامات الضبط والإتقان، ومعالم الخبرة، وسرعة الإنجاز.

وصدق الوعد، وإخلاص العمل، ولَطافة المعشر، وجمال الأخلاق، ونضارة الروح، وذوقيات السلوك، فكانوا بالتالي نماذج رائعة لأهالي الإمارات وعمان.

هجرة فعلية

ولكن الاغتراب والسفر الفعلي والكبير بدأ بحلول عام 1954 الذي شهد اغتراب نحو ألفي شخص شهرياً إلى دول الخليج المجاورة. مع الأخذ بعين الاعتبار أنه لم يذهب جميع أهل المنطقة إلى هناك وإلا لخلتْ البلاد من الرجال. وبصورة عامة فإن الأيدي العاملة العربية من المنطقة مثلت نسبة لا بأس بها من عموم الأيدي العاملة في الكويت، نظراً إلى سهولة الوصول إليها من موانئ المنطقة.

كما أن هجرة أبناء المنطقة للكويت لم تكن تخضع لتنظيم معين آنذاك، بمعنى لم تكن لها معايير محددة أو وفق عقود عمل، فكان للمواطن الخليجي أن يعمل في الكويت أينما شاء خاصة في القطاعات التعليمية والصحية والاجتماعية، إضافة إلى نسبة ليست بالكبيرة في القطاع الاقتصادي وكثير من هذه الأيدي العاملة لم تنل حظاً وافراً من التعليم.

وبغض النظر عن طبيعة مساهمة هؤلاء في المجتمع الكويتي من حيث الثقافة والمستوى الاجتماعي، إلا أنهم كانوا يمثلون طاقة إيجابية في المجتمع الكويتي من حيث كونهم أقرب إليه من غيرهم، وأكثر تفهماً لعاداته وتقاليده، وأقربهم إليه مودة وتعاطفاً. وأن جزءاً كبيراً من أبناء المنطقة وعُمان العاملين في الكويت تقل أعمارهم عن ستين عاماً، لأن مَن يذهب للعمل هناك من الفئة العمرية الصغيرة.

ومع تطور الحياة في الكويت زادتْ تعقيداتها وحاجتها إلى أيدٍ عاملة ذات خبرة ومهارة وتقنية، وحينها تأسستْ دولة الإمارات العربية المتحدة، كما بدأ عهد النهضة في سلطنة عمان، فرجع معظم الأهالي إلى بلدانهم ليسهموا في نهضتها وتقدمها.

قدم سبق

لم يحدث استغناء عن أعمال أبناء الإمارات وعُمان إلا مع ظهور النهضة في بلديهم. ومن الملاحظ أيضاً أن قطاع صيد الأسماك في الكويت حاز فيه أبناء الإمارات وعمان قدم السبق، لتركز نسبة كبيرة منهم فيه، ثم تليه قطاعات البناء والتعمير والكهرباء والنفط والتجارة والمواصلات، ولهذا اكتسبوا خبرة ومهارة في العمل اليدوي والفني والتقني.

وإضافة إلى ذلك فإن حالات من زيجات عدة تمت بين الكويتيين وبين نساء من بنات المنطقة، وهذا مؤشر إيجابي في حد ذاته. ونتيجة لتأقلم أبناء الإمارات مع الحياة في المجتمع الكويتي تحديداً، فإنهم بقوا في الكويت حتى بعد قيام اتحاد دولة الإمارات بسنوات..

وحينها كانوا يتحصلون على ختم مِن سفارة الإمارات في الكويت، عادة ما يدوّن عليها: «حامل هذا الجواز مسموح له بالعودة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة». وتزوج بعضهم في الكويت، رغبة في ترسيخ أُسس التآخي مع المجتمع الكويتي.

تنقلات

ومن ما ساهم في هذه الأسفار أن حكام إمارات الدولة في تلك الآونة قد سهلوا تنقل الأفراد. وهذا أمر إيجابي، إذ لعبت مثل هذه التنقلات الداخلية بين مواطني المنطقة دوراً في تواصلهم الاجتماعي في ما بينهم. وقد تطلب ذلك حرية التنقل بين إمارات الدولة في تلك الفترة دون جوازات سفر على الأغلب. ومن الجدير بالذِكر أن دبي كانت منطلق هؤلاء المسافرين سواء عبر مينائها أو عبر مطارها.

فيما بعد، فكانت بالتالي الرئة التي يتنفس منها أبناء الإمارات، وكانت حلقة الوصل بينهم وبين العالَم الخارجي. كما كان مطار الشارقة معبراً ميسوراً، ومكاناً متوسطاً، للسفر إلى بلدان الخليج الأخرى. وكانت الأخبار تصل للناس عن وفرة الأعمال في بلدان الخليج الأخرى، ومهما كانت أعباء وصعوبات السفر، حتى ولو مشياً على الأقدام، إلا أنها لم تعق عن الارتحال.

تواصل

تشكل التحركات والتنقلات والأسفار في القرن الماضي، دليلاً مهماً على مدى كون أهل الإمارات، ومنذ القدم، ناجحين في التواصل والتفاعل الحضاري مع العالَم. إذ إن الأسفار والارتحال بحثا عن الرزق في تلك الفترة، كانت ترتكز في نجاحها على حقيقة كونهم منفتحين وقادرين على التعاطي الخلّاق مع الأفراد من المجتمعات كافة.

100000

ورد في إحدى الوثائق، أن عدد الذين تنقلوا في دول الخليج العربي خلال سنوات سبقت عام 1953 من الإمارات وعُمان بلغ 100 ألف شخص. ولكن يبدو الرقم مبالغاً فيه، خاصة إذا افترضنا أن منتصف عام 1948 هو البداية الفعلية للهجرة إلى دول الخليج الغنية، فلا يعقل أنه خلال أقل من خمس سنوات هاجر كل هذا العدد الهائل إلى تلك البلدان.

وبما أن منطقة الخليج العربي تعد وحدة ثقافية واجتماعية متشابهة ومتواصلة، فإن أسفار أبناء الإمارات وعُمان إلى بقية بلدان الخليج العربية لا تعد أسفاراً إلى مجتمعات غريبة عليهم. وفي الوقت نفسه، فإن هؤلاء القادمين الجدد ساهموا في تحسين ظروف معيشة أُسرهم، بإرسالهم مبالغ مالية لا بأس بها إليها.

حاجات وخدمات

من الأمور التي كانت تدعو أبناء الإمارات للسفر إلى البلدان المجاورة، تطور الخدمات الطبية في تلك البلدان حينها، ولعدم توافر فرص الطبابة الحديثة والاقتصار على الطب الشعبي بما له وما عليه في المنطقة.

وهذا بينما عرفت الكويت منذ عام 1912 أولى الخدمات الطبية الحديثة، في عهد الشيخ مبارك بن صباح الصباح، ثم في عام 1939 أنشِئتْ دائرة الصحة العامة، ثم في عام 1949 افتُتِح المستشفى الأميري الذي كان يضم آنذاك 110 أسرة، إضافة إلى مستوصفات أخرى عامة وعيادات خاصة.

ومِثل هذه الخدمات الصحية في الكويت جعلتْ أهل الإمارات يقدمون إليها لتلقي العلاج، والحصول على الرعاية الطبية التي لم تكن متوافرة بكثرة، خاصة لذوي الاحتياجات المَرَضية المستعصية، كما كانت مستشفيات البحرين مقصداً للعلاج أيضاً.