لقد كان لكلمات صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي، رعاه الله، حول شعار عام التسامح، واختيار شجرة الغاف المتأصّلة في تربة الإمارات شعاراً لهذا العام، «عام التسامح»، ومضات فكريّة وثقافيّة وتراثيّة وأدبيّة تفتح باب التفكير، وتشجّع على الاطّلاع، والبحث حول هذه الشجرة الأصيلة، المتجذّرة، فجال نظري في كتب التراث والأدب واللغة والجغرافيا والنبات والبيئة، فاطّلعتُ على عدّة مصنَّفات تتحدّث عن الغاف، كشجرة تكرّرت الإشارات إليها في الشِّعر والحكاية الشّعبيّة والأدب.
وهذه الشجرة تتطاول في السماء بارتفاع يصل إلى 28 متراً، وهي تكثر في السهول والكثبان الرمليّة وجوانب الأودية. وتزهر في الفترة من مارس إلى مايو، ومن أكتوبر إلى يناير. ويقال إن الجذر الرئيس لهذا النّبات يصل طوله إلى 60 متراً، ولأوراقها استخدامات طبّيّة معيّنة.
وهي أكثر انتشاراً في الجزء الجنوبي الشرقي من شبه الجزيرة العربية. وكما يقول عنها الكاتب A. A. Western في كتابه: The Flora of the UAE، أنّها أكبر أشجار البادية أو البيئة الصحراويّة. ويمكن أن تعمَّر لأكثر من مئة سنة. وهي دائمة الخضرة.
حاضرة في الشعر
أقدم ذِكر لهذه الشجرة في شبه الجزيرة العربية، حسب ما بدا لي ورد عند الشاعر الجاهلي امرؤ القيس (ت. حوالي 80 ق.هـ = 545 م.) حين قال:
يَقْطَعُ الغافَ بالخَصِينِ ويُشْلي
قَدْ عَلِمْنا بمَنْ يُدِيرُ الرَّبابا
والبيت من الخفيف، وهو في ملحق ديوانه، وهو منسوب إليه في لسان العرب، وتهذيب اللغة، وتاج العرس، وبلا نسبة في كتاب العين.
وقال: عبيد الله بن الحر بن عمرو الجعفي (ت. 68 هــ / 687 م) يعاتب مصعب بن الزبير على تقريبه للمهلّب بن أبي صفرة، وتعييره بأنّه من بلد قَصيّ.
جعلتَ قصور الأزد ما بين منبجٍ
إلى الغاف من وادي عُمان تصوّب
بلاد نفى عنها العدوَّ سيوفنا
وصُفرة عنها نازحُ الدار أجنب
وقال الفرزدق (ت. 112 هـ.=730 م.):
إليك نأشتُ يا ابن أبي عقيل
ودوني الغاف غاف قرى عُمان
والنأش: التأخير، وقد نأش الأمر، إذا أخّره، والنأش: النهوض في إبطاء، ويقال: من أين نأشت لنا، أي نهضت، والنَّؤوش، كصبور: القوي الغالب، ذو البطش. وقوله: «ابن أبي عقيل» يعني به: أبو محمد الحجاج بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل بن مسعود بن عامر الثقفي.
إشارة الفرزدق
ويقول الفرزدق أيضاً، معرّضاً بيزيد بن المهلّب بن أبي صفرة:
ولو رُدّ المهلّبُ حيث ضمّت
عليه الغاف أرض أبي صفار
وهنا يشير إلى البلاد التي أتى منها المهلّب بن أبي صفرة، وهي مشهورة بالغاف.
وقال ذو الرمة (غيلان بن عقبة العدوي: ت. 117 هــ / 735 م):
إلى ابن أبي العاصي هشام تعسّفتْ
بنا العيس من حيث التقى الغاف والرمل
وقوله: «ابن أبي العاص» يقصد به الخليفة عبدالملك بن مروان، و«هشام» هو ابنه الخليفة الأُمَوي.
وقول أحدهم:
حَتَّى أَناخَ بذاتِ الغافِ مِنْ شَغَفٍ
وَفِي الْبِلَادِ لَهُمْ وُسْعٌ ومُضْطَرَبُ
البيت من البسيط، وهو بلا نسبة في لسان العرب، وتهذيب اللغة، وكتاب العين، وتاج العروس. وشَغَفٌ موضع في جنوب شرقي شبه الجزيرة العربية يُنْبِتُ الغافَ العظام. وهذه الإشارات في الشِّعر الجاهلي والإسلامي تؤكّد أنّ هذه المنطقة هي منبت الغاف العظام، وهو أحد أسباب شهرتها بين البلدان والمواضع.
قصة محلية
ويرد ذِكر الغاف في قصّة أو خرّوفة محلّيّة تسمّى: «اليَلْب»، تحكي قصّة امرأة ظلّتْ سبع سنوات لم تحمل، وهي تتمّنى أن تُرزق بأولاد، ودعتْ إن رزقها الله بنتاً ستسمّيها «اليَلْب»، وأن تجعلها عند المطوّع تتعلّم القرآن.
وفعلاً رزقها الله ببنت، سمّتها اليَلْب، ولمّا كبرتْ أخذتْها للمطوّع تتعلّم القرآن، وظلّتْ تأتي عند المطوّع صباحاً إلى آخر النّهار، وفي يوم مِن الأيّام أتتْ باكراً فرأتْ المطوّع السّاحر باركاً على ولد عمّها يقوم بذبحه ثم سلخه فهابها المنظر، وخافتْ خوفاً شديداً وأحسّ المطوّع أنّها رأتْه وهو يقوم بهذا العمل الشّنيع، مع أنّها أخذتْ مكانها مع الأولاد وهي صامتة، ولمّا انصرف الأولاد أبقاها المطوّع صائحاً فيها، ناظماً سؤالاً يتحقّق فيه منها هل شاهدتْه أم لا. فأجابتْ بالنّفي، وبقي على هذه الحال ثلاثة أيّام ثم هدّدها بأنّه سينفخ فيها، وسيبعدها عن أهلها على بُعد سبعة بلدان، فقالتْ: افعل ما بدا لك. فإذا به ينفخها ويجعلها تطير، ثم يلقيها على غافة جلستْ عليها حزينة.
فإذا بابن السّلطان يأتي مع أصدقائه ويقعد معهم تحت هذه الغافة فذبحوا، وأخذوا يطبخون غداءهم، وأخذ ابن السلطان مصحفه يقرأ فيه، وفجأة تسقط دمعة من عينيَ الفتاة على المصحف فيرفع رأسه ويلحظها، وفجأة يأمر أصدقاءه بالرّحيل، ويضع صينيّة مليئة بالأرزّ واللحم ثمّ يترك نعاله وعصاه وخاتمه بالقرب من الصّينيّة ويغادر مع أصدقائه، ولمّا ابتعدوا أظهر لهم أنّه تذكّر نعاله وعصاه وخاتمه فقرّر العودة بمفرده حتى وصل إلى الغافة، وقبض على الفتاة وهي تأكل، وأخذها معه إلى بلده ويأتي بها لوالدته ثمّ يقرّر الزواج بها، ويفكّ خطبته لابنة عمّه ويتزوّج من هذه الصّبيّة الغريبة.
الموروث الشعبي
وفي الموروث الشّعبي ما أخبرتْني به الأستاذة الفاضلة فاطمة المغنّي، أنّ مَن كان يصاب بالحصبة، وهو صغير، في وقت كان يفتقد إلى المستشفيات والعيادات الصحّيّة، فكان أحدهم يوضع تحت ظلّ شجرة غافة، لا شجرة غيرها، وتحتها يتمّ علاجه وتطبيبه. ويذكر الأستاذ عبد الله عبد الرحمن أنّ الجميع من بدو وحاضرة أحبّوا هذه الشجرة، وغنّوا لها وسط زرقة البحر في موسم الغوص، مردّدين، «ويا محلا براد القيظ.. يحلا بظلة الغافة.. يا خوي الشتا مغثه.. يبغي لبس ولحافة».
رمزية الغاف
وكما يذكر الأستاذ سلطان العميمي أنّ الشّاعر الكبير المايدي بن ظاهر قد أشار إلى أشجار الغاف في عدد من أشعاره. وكما أفادني الأستاذ سلطان أن الغاف كان أكثر الأشجار ذِكراً في الشِّعر النّبطي للشعراء القدماء.
وفي كتاب الأستاذ عيّاش يحياوي: «الشجرة: الحضور والتصوّرات» إشارات إلى الغاف في الموروث القصصي والسردي، ظهر من خلاله أنّ الأهالي قد ارتبطوا بهذه الشجرة من خلال العديد من التصوّرات والحكايات التي تجعل من الغاف رمزيّة في الوجدان وفي المكان.
وارتبط ذلك بعددٍ من الغافات القديمة ذات الحضور في النفوس والأذهان والأفكار نظراً لِقِدم نشوئها وتطاول علوّها وتوزّع أغصانها، وهي بهذا المنظر تمنح للمشاهد ظِلالاً أخرى تجعل لها مكانة خاصّة عند الأهالي.
نشأة قديمة
وبدأ الأستاذ عيّاش بسرد حكايات حول بعض الغافات ذوات الشأن، اللواتي احتفظ الناس ببعض القصص حولهنّ تشير إلى أنّ هذه الأشجار كانت قديمة قِدماً لا يتذكّره الرواة مع تقدّم بعضهم في العمر.
وقد نالت هذه الأشجار مكانة في الذاكرة الشّعبيّة على اعتبار أنّها قديمة الخلق والنّشأة، وأشار إلى شجرة الشهبانة في منطقة السلع، وقربها منطقة الغويفات.
وكان لهذه الشجرة تحديداً حضوراً في محيطها الجغرافي إذ أضحتْ محطّة للرحل والحجّاج، وتحتها كان يستريح المسافرون والعابرون فينالون تحت فيئها راحة وهدوءاً. وفي أمّ غافة التي نالت الاسم من غافة قديمة كانت تنمو في المنطقة، وكانت جنب بئر قديمة يستقي منها الأهالي منذ دهر بعيد. وكانت معلماً للعابرين، وملاذاً للسائرين إلى تلك المنطقة.
أسماء متعددة
ثمّ يواصل الأستاذ عيّاش تدوين أسماء عدد من الغافات التي ارتبطت بأماكن معيّنة مثل: عيدان العاضد، ودمية الدودة، ودمية المتعلّج، وغاف المطلاع، وعود صقحان في منطقة العين. وهي بلا شك تمثّل رسوخاً في أمكنة نشوئها، وكلما طال بقاؤها، ترسّخت في الأذهان أخبارها، وبقيت معالمها حتى بعد زوال آثارها مع مرور الوقت والزمن.
وفي الأطلس الجغرافي لدولة الإمارات توجد عشرات المواضع التي تحمل اسم «غافات»، مثل: غافات العظاميّة، والمنتزر، وهيلي، وبو فراشة، والرّدّة، والزناد، والخنافيش، والصّميّخ، واليفرة إلى غيرها من المواضع المتناثرة على أرض الإمارات، تؤكّد ما لهذه الشجرة من الحضور في الجغرافيا والبيئة والتراث والتاريخ والاجتماع.
ظلّ الغاف ملاذٌ وإقامة للأهالي
تستخدم جذوع الغاف أحياناً لتكون روايل لليازرة، لقوّتها ومتانتها. كما كانت ظلّة الغاف الكبيرة ملاذاً وإقامة للأهالي في أوقات القيلولة أي بعد الظهر. وهي بالتالي كانت مضيفاً للاستقبال. كما استعمل عدد من الصّنّاع المحلّيين في بعض مناطق شرقيّ سلطنة عُمان أشجار الغاف لبناء أجزاء من سفينة الصيد الصغيرة المعروفة بــ«البدن». والغاف كان ينمو بوفرة في أودية تلك المنطقة. وإلى زمن قريب كان الأهالي يستخدمون الأوراق النضرة والصغيرة من الغاف كطعام يعرف بالمجيج، إذ تؤخذ الأوراق النّضرة فتدقّ، ثم توضع في العيش أو الأرز، ويهرسان معاً، وكان كثيراً ما يتمّ أكل المجيجة مع المالح، والبصل، والليمون.
صفحة متخصصة بالتراث والبحث في مفردات المكان تصدر كل خميس