في طفولتي، عشت في بيت جدّي جمعة بن يوسف بن صراي، رحمه الله، في رأس الخيمة القديمة، وكان بيتنا قريباً من الحصن، والبيت من المنازل كبيرة المساحة، وكانت تتوسّط البيت سدرة كبيرة معمّرة «ملّاسيّة»، أي لا نواة لنبقها، حلوة، كانت موئل أهل البيت، وملاذهم في أوقات الظهيرة، والعصر.
وكانت في الوقت نفسه موئلاً للنحل. ولم تبقَ تلك السدرة إذ قُطعت مع هدم البيت القديم. ولكن بقيت السدرة في الذاكرة. ومن هنا، أستعرض مع القارئ الكريم، علاقة أهل الإمارات بالسدر. وما تمثّل هذه الشجرة بالنسبة للناس في المجتمع المحلي.
البيئة والنمو
تُعرف شجرة السدر علميّاً باسم «Ziziphus»، وهي تنتشر في كل الإمارات، وفي البيئات الرملية، والسهلية، والحصوية، والغرينية وفي الوديان. ويتحمّل السدر إلى حدٍّ ما الملوحة، ويقاوم الجفاف، ويتحمّل الرعي الجائر. وهو شجر طويل، ذو أشواك، يصل طوله إلى 12 متراً تقريباً، والسدرة شجرة دائمة الخضرة، ولكن تتحاتّ أوراقها مرة في العام. وجذورها عميقة، قويّة، متشابكة، وأشواكها على الأغصان، ولها جذع غليظ ذو لحاء خشن.
يزهر السدر مرّتين سنويّاً، صيفاً وشتاء. وأفضل أوقات ازدهارها بين شهرَي سبتمبر ونوفمبر، وما بين شهرَي مارس ومايو، والسدر هو الشجرة المثمرة الأولى التي تنمو طبيعيّاً في دولة الإمارات. وهو ينمو برّيّاً، ومنزليّاً، وهو من أكثر الأشجار انتشاراً في الإمارات. وثمارها حلوة، لذيذة، تتغذّى عليها الطيور، والحشرات، وغيرها. ويعدّ عسل السدر من ألذّ أنواع العسل. كما ترعى الماعز والأغنام والأبقار والإبل على أوراقها. والسدرة الكبيرة يُستَظلّ بفيئها.
قرآن وسنة
تكرّر ذِكر السدر في القرآن الكريم، و«نبقه» من طعام أهل الجنّة. وقد ورد في الصحيحين ومسند الإمام أحمد، من حديث الإسراء عن مالك بن صعصعة، عن النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «.... ثم رُفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها مثل قِلال هجر، وإذا أوراقها مثل آذان الفيلة». ومن حديث أنس بن مالك أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: «ورُفعت لي سدرة المنتهى، فإذا نبقها كأنه قلال هجر، وورقها كأنه آذان الفيول».
كما ورد ذكر السدر في التراث، ومنه القول المأثور، الذي أفادني به الأستاذ جميع الظنحاني، وهو بيت من الرجز:
اتزخرفي يا سدرة البيت
وتمايلي عود على عود
وهذا البيت يردّد في رزفة تراثية من الموروث.
المنيور
تُستَعمل أخشاب السدر في صناعة المنيور، كما تُستَعمل كحطبة توضع على الثور، وتُعرَف محلّيّاً بـ «الوي».
كما استخدمت في البيوت التقليديّة والعمارة التراثيّة، وكان من أهمّ ما يميّز البيوت التقليديّة، الفناء أو «الحوي»، الذي يعدّ متنفّساً لأهل البيت، ومحلّاً لنشاطاتهم المختلفة، وغالباً ما كانت تتوسّطه «سدرة» أو «لوزة». وتعرف المساكن الجبليّة ببيت القفل، وهو نوع من العمارة الخاصّة التي أتقنها سكّان المناطق الجبلية، إذ كان الرجل يبني بيته من صخور الجبال واللّبِن.
ويبني سقفه من جذوع السدر أو السمر، التي تقطع في مواسم خاصّة، ثم يوضع فوقها ورق الصخبر لحماية البيت من الأرضة والحشرات. كما استُخدمت في التسقيف جذوع أشجار السدر، التي تعدّ أفضل أنواع الأشجار المحلية، إضافة إلى جذوع أشجار «القرط»، وأحياناً اللوز والشريش، أو غيرها من الأشجار المتوافرة في البيئة المحلية.
وأما «السِيَم» الذي يُعرف أيضاً بـ «المنامة»، فهي مظلة تقام أمام المساكن للنوم، وتكون في وقت القيظ، إذ توضع أمام العرشان أو وسط الفناء. وهي مرتفعة عن الأرض بمقدار متر ونصف المتر، أو أقل من ذلك. وتقوم على ست قوائم أو أكثر إلى 12 عموداً خشبياً، وقد ترفع على قوائم من جذوع النخيل أو بعض البراميل، أو من أشجار السدر أو السمر أو غيرها. وتصنّع من جذوع السدر الطبول.
قصص شعبي
في الحكايات الشعبية، ما ذكره المرحوم أحمد راشد ثاني، عن موضع بعينه قريب من خورفكان، يُسمى «الوثن»، وقال إنه، لغز، وإنه سمع حوله أحاديث وحكايات، وكان المبنى عبارة عن غرفة بيضاء، كان يتعبّد فيها متصوّف يدعى «الشيخ منصور»، أو «الشيخ المنصور عبد الرحيم البهلول»، وكان أمام الغرفة سدرة ضخمة، تحتها بئر يقال إنّ مَن يُسقط فيها شيئاً يظهر في البحر.
وأشار إلى أنه زار هذا المكان في صباه، ولكنّ الشيخ غادر البلدة مع قافلة محمّلة بالكتب. ويرد ذِكر السدرة في قصّة «مريم أمّ الزّين»، التي تتحدث عن صبية جميلة، أحبها حصان أخيها السلطان، وتعلّق بها، وكان هذا الحصان أثيراً عند صاحبه، وخشي أن يتخلّص منه، فأمر أخته أن تغادر البلاد، وتسير مدة سبعة أيام مع خادمتها، وحملت معها ثيابها وأدوات صيد وقنص وبعض الأسلحة، ثم أطلق الحصان الذي تبعها.
وكانت الخادمة تراقب الدّرب، وهي تصف لسيّدتها في أي حجم يتراءى لها الحصان، فبدأت بحجم حشرة، إلى أن كبر، ثم وصلتا إلى سدرة يابسة، اخضرّتْ بدعوتها فصعدتا إليها، حتى وصل الحصان إلى السدرة، وبدأ يفتح فمه، وبدأت الفتاة ترمي في فِيهِ ما عندها من متاع وآلات، حتى ابتلعها كلها، ثم غصّ فمات. كما ترد الإشارة إلى السدرة في حكاية «الطّير والعقد»، إذ كان ظلّ السدرة محلاً يفيء إليه الناس وعابرو السبيل.
إشارات
لفت نظري عنوان كتاب الأستاذ مؤيّد الشيباني، وهو «عزف على خشب السدر: قراءة ميدانية في المكان بدولة الإمارات العربية المتحدة»، وفي مقدم الكتاب، يقول المؤلِّف: «المكان سدرة قديمة.. والزمان.. ذاكرة مفتوحة على العلاقة والنّاس والأسئلة». ومن جماليات عباراته، قوله: «كيف نخرج من المدينة دونما قطعة من خشب السدر، نحكّ بها جلودنا المغطّاة بتعب الاغتراب».
وعنوان الكتاب هو أيضاً أحد العناوين الفرعيّة، وفيه حديث حول «الجلافة»، وصناعة القوارب والسفن، وفيه إشارة صريحة إلى استعمال أخشاب السدر في صناعة المحامل. ومن هنا، جاء العنوان المعبّر الجميل. ولفت نظري كذلك عنوان قصص قصيرة «السدرة»، من تأليف ثريّا البقصمي. وهو أيضاً عنوان للقصّة الثانية في الكتاب، وفيه أنه تحت ظلال سدرة، كان ينفّس مرزوق عن قهره بشكل منتظم.
حضور
في كتابه المتميّز «الشجرة: الحضور والتصوّرات»، يورد الأستاذ عيّاش يحياوي، عدداً من المواضع، حملت اسم «السدرة» كعلامة على المكان والإنسان، وهي: «سدرة عتّاب» في منطقة ليوا، التي تجاوز عمرها 200 عام، ويصوغ الأهالي حولها حكايات رمزيّة، لها علاقة بالسحر والشعوذة. وفي ليوا كذلك موضع آخر يدعى «سدرة حفيف»، التي تعلو في السماء بشكل شاهق، وتتكوّن من جذعين طالعيْن من جذع واحد، ونبقها «ملّاسي»، أي لا نواة له. ولكن السدرة لم تعد موجودة الآن، إذ ماتت منذ زمن.
وفي ليوا نفسها موضع آخر يدعى «سدرة الحويلة». وفي منطقة العين، توجد «سدرة المتعلّج»، وهي سدرة وحيدة في هذه البقعة، وهي شجرة عظيمة. وفي العين أيضاً سدرة أخرى، معروفة بين الأهالي، هي «سدرة السوق»، التي بقيت سامقة، عالية منذ زمن بعيد، وتحتها يجلس الناس، يستظلّون بظلالها الوارفة.
وفي مدينة أبوظبي، توجد سدرة بعينها في حي البطين، يقال إنها مزروعة عام 1882. ثم يواصل الأستاذ عيّاش حديثه عن البُعد النّفسي والقِيَمي لهذه الأشجار، ومن ضمنها السدر بطبيعة الحال، التي ترسّخت ذكرياتها في نفوس الأهالي، فرووا حولها قصصاً وحكايات، لا تعدو كونها حديثاً للنّفس في أوقات الصفاء.
علاجات وأدوية
تُستَعمَل أوراق السدر اليابسة، الناعمة، والمخلوطة بالماء، في غسل الأموات. ولعلاج الكسور، يستعمل دواء يتكون من أوراق شجر الشريش مع أوراق السدر، وقليل من الحلبة والمر والكركم. تخلط هذه الأدوية في الماء، وتوضع في كأس على النار لفترة قصيرة، ثم تؤخذ بعد أن تبرد، وتوضع فوق الكسر. ويوضع ورق السدر في الثمول، وهو عجين يتكوّن من السدر والكركم والملح، ثم يوضع على الورم الموجود في الرأس، وهو المعروف محلياً بـ «الفلعة».
وإذا اغتسل الإنسان بالماء المخلوط بورق السدر، فإنه يُذهب حرارة الجسم. وفي الطب العربي القديم، أنه إذا غُلي ورق السدر، ثم شُرب الماء، فإنه يقتل الديدان، ويفتح السد، ويزيل الرياح الغليظة. ونشارته الخشبية تزيل ألم الطحال، والاستسقاء وقروح الأحشاء، ومسحوق ورقه يلحم الجراح، ويقلع الأوساخ، وينقّي البَشَرة وينعّمها، ويشدّ الشعر.
ومن خوّاصه أنه يطرد الهوام ويشد العصب، وثمره هو «النبج»، إذا اعتصر الحلو منه بعد إزالة النوى وشرب بالسكر، أزال اللهيب والعطش وقمع الصفراء، وتستعمل أوراق السدر الخضراء في الإمارات، كمادة طبية، فأحياناً تنقّع أوراق السدر مع قليل من الماء، بعد غليها جيداً، وتشرب لعلاج آلام المعدة وحالات الإسهال والربو. ومقوٍّ للمعدة، وينفع من نزف الحيض.
سدروه
في مدينة رأس الخيمة القديمة، يسمى أحد أشهر فرجانها «سدروه»، وكان في القديم خارج سور رأس الخيمة في الجهة الجنوبية من البلدة، ومنذ فترة بعيدة، كانت توجد في «سدروه» آبار مياه عذبة، يستقي منها أهالي رأس الخيمة، ثم عمر بالبنيان والسكن. وكان اسم «سدروه»، أحد أماكن الميلاد التي دُوّنت على جوازات مواطني إمارة رأس الخيمة القديمة.
سيح السديرة واللقاء التاريخي
في دولة الإمارات موضع شهير جدّاً، يُعرَف بـ «سيح السديرة»، بين إمارتَي أبوظبي ودبي، وهي تلّة رملية، ومرتفعة بعض الشيء. وفي حديث سابق مع الأستاذ حسين البادي، ذكر فيه أن منطقة سيح سديرة، تعود تسميتها إلى شجرة سدر صغيرة، كانت الوحيدة النابتة في هذا الموضع، وما كانت تكبر بسبب أكل الإبل أوراقها، وغصونها الجديدة.
وكان بالقرب منها غدير ماء يسمّى «غدير السديرة»، يتموضع في نهاية سيح السديرة، كانت تتجمّع فيه مياه الأمطار الجارية في سيوح السميح، والسمحة.
وقد شهد سيح السديرة، الاجتماع التاريخي العظيم الذي جمع المغفور لهما، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيّب الله ثراهما، وفيه تم الإعلان عن قيام اتحاد يجمع الإمارتين، وذلك في 18 فبراير عام 1968. ويمثل هذا الاجتماع، نقطة تحوّل رئيسة في تاريخ الإمارات المعاصر، اعتُبِرت اللبِنة الأولى في صرح البناء الاتحادي.