لم يتمكن أي فن من تجسيد الخيال العلمي تجسيداً واقعياً كما فعلت السينما، وهي غنية جداً بأفلام من هذا الصنف الذي يشاطرها عمرها. أفلام الخيال العلمي تبهرنا لأنها مبدعة في الطرح تحاكي خيالنا الجامح في التفكر في الكون وجماله وأسراره. ولأنها تتمتع بمؤثرات خاصة خلابة عادة ما تزين مشاهد هذه الأفلام. لطالما كان السفر عبر الزمن مادة دسمة وجزءاً لا يتجزأ من أفلام الخيال العلمي منذ أن طرح H.G.Wells روايته The Time Machine عام 1895. والتي كان لها الفضل في تقديم هذه المادة للجمهور.
أصالة الأفكار
منذ دخول الألفية الجديدة تغيرت أفلام السفر عبر الزمن وأصبحت ميزانياتها تتقلص لصالح أصالة أفكارها وسهولة تنفيذها. وفي هذا السياق سنتناول أغرب أفلام هذه النوعية في آخر 10 سنوات.
السفر عبر الزمن في الأفلام لا يستقيم إلا بوجود فكرة الأكوان المتزامنة. عام 2004 كتب مهندس يدعى شين كاروث وأخرج فيلماً بعنوان Primer وهو أحد أغرب الأفلام وأشدها تعقيداً. المقاربة أن شين يؤدي دور مهندس في الفيلم يخترع آلة مع مهندس آخر دون أي فكرة عما يمكن أن تعمله. يرى المشاهد المهندسين وهما يبنيان الآلة في مرآب ويسألان بعضهما عن النتيجة النهائية.
براعة في التنفيذ
الفيلم كتب بطريقة ذكية ونفذ ببراعة، حيث إنه يضع المشاهد في كفة واحدة مع المهندسين، فلا هو يعلم عما يتحدثان عنه ولا هما يعلمان ما هذه الآلة التي يصنعانها. وهذه المعالجة الذكية للنص السينمائي هي التي تجعل المشاهد ينغمس معهما، إذ إنها تجعل المشاهد يبدو وكأنه مسترق للسمع بدل أن يكون مغيباً تماماً.
بعد اكتمال الآلة يكتشف المهندسان أن الوقت بداخلها مختلف عنه خارجها، فهي متأخرة بـ1347 دقيقة، أي 23 ساعة تقريباً. وعندما يجربانها يكتشفان أنهما عادا يوماً واحداً للوراء، فيستغلان ذلك لتحقيق أهداف مادية، ثم عندما يدمنان استخدامها تحدث الكارثة فيخلقان ما يقرب من 9 خطوط زمنية متداخلة وتختلط عليهما الأمور ويصابان بالتشوش والارتباك إلى درجة أنهما أصبحا يريان نفسيهما مزدوجين كلما تداخل خط بآخر فلا يعرفان إن كانا الأصليين أم المزدوجين ومن أي خط زمني بالتحديد.
تفاصيل معقدة
الفيلم يلامس الواقعية ويهدف إلى إيصال فكرته وليس تفاصيله، فالتفاصيل معقدة وعسيرة على الفهم. يذكر أنه فاز بجائزة أفضل فيلم دراما في مهرجان صندانس السينمائي عام 2004، ووقتها رفض شين أن يفسر الفيلم، وقال إنه نفسه لم يتوقع النتيجة النهائية.
ومن أغرب أفلام السفر عبر الزمن أيضاً Triangle عام 2009. الفيلم عن فتاة تمر بظروف عائلية صعبة تخرج في رحلة بحرية مع أصدقائها في يخت، وعندما تصادفهم ظروف جوية سيئة يرون سفينة سياحية مهجورة تمر بالقرب منهم فيقفزون فيها ليكتشفوا أنها تدور في مثلث بيرميودا الغامض، وأنهم أصبحوا مسجونين داخل حلقة زمنية مقفلة.
إيحاءات وكابوس
المخرج كريستوفر سميث يستخدم Jump cut في المونتاج ليعكس حالة الاضطراب النفسي التي تنتاب الفتاة وهي تواجه الكابوس على السفينة من جهة، ولينقل للمشاهد إيحاءات بأن الزمن يعيد نفسه على السفينة من جهة أخرى.
بمجرد أن تكسر الفتاة الحلقة الزمنية نرى أن تلك الحلقة ليست سوى جزء يسير من مجموعة مفاجآت تنتظرها. الفيلم مبني على الرموز والشفرات وهو ما يجعله يحمل أكثر من تأويل. لم تنتظر السينما طويلاً حتى جاء فيلم Looper عام 2012، والذي أعطى موضوع السفر عبر الزمن انضباطية جميلة أضفت عليه الكثير من الواقعية، وذلك بفضل المعالجة الأصيلة الخارجة عن المألوف للمخرج والكاتب رايان جونسون.
تلاعب البشر
تقع أحداث الفيلم في زمنين متوازيين في المستقبل في مدينة كنساس الأميركية، الزمن الأول عام 2044 والثاني عام 2074، حيث إنه في الزمن الثاني تم اختراع السفر عبر الزمن ونتيجة لتلاعب البشر بالاختراع قامت الحكومة بمنعه. وقع الاختراع في يد المنظمات الإجرامية التي أخذت تصفي حساباتها من خلاله بإرسال من تريد التخلص منهم إلى العام 2044 ليتم قتلهم والتخلص من جثثهم هناك، وبالتالي لا يمكن تجريم تلك المنظمات لعدم وجود أي جثة أو دليل.
عبقرية جونسون لا تتجلى فقط في الحوار الجميل والعميق بين بطل الفيلم عام 2044 ونفسه من عام 2074، وإنما في النهاية، حيث امتص جونسون التناقض الذي برز بذكاء شديد ووضع الخيال في قالب واقعي. يذكر أن جونسون غير وجه الممثل جوزيف غوردون بمزجه بالمؤثرات الرقمية مع وجه الممثل بروس ويليس لخلق شبه بينهما، حيث إنهما يؤديان نفس الشخصية في الزمنين المذكورين.
بعد ملموس
كريستوفر نولان أحد رواد المدرسة الواقعية في السينما الحديثة تناول في ملحمة الخيال العلمي Interstellar عام 2014 السفر عبر الزمن من منطلق علمي بحت، إذ يستند الفيلم إلى نظريات لعالم الفيزياء النظرية كيب ثورن ونظرية النسبية لألبرت آينشتاين. حسب الفيلم الذي تقع أحداثه في المستقبل القريب فإن البشر سيكتشفون البعد الخامس وبفضله سيكون الزمن بعداً ملموساً يستطيعون الانتقال خلاله.
في العام نفسه طرح فيلم Coherence وهو خيال علمي ذو ميزانية ضئيلة، لم يتناول السفر عبر الزمن، وإنما ناقش مسألة الأكوان المتزامنة من خلال ظاهرة علمية. الفيلم عن مذنب يمر فوق الأرض ويسبب مروره انقساماً للعالم فيصبح كل شي مزدوجاً. الفيلم يعطينا مثالاً على ذلك من خلال مجموعة أصدقاء يتناولون طعام العشاء أثناء مرور المذنب فتنقطع الكهرباء ليجدوا أن البيت المجاور لهم أنواره مضيئة وعند الذهاب إليه يجدون أنه مطابق تماماً لمنزلهم.
إيقاظ المشاعر
الفيلم يقلد Primer في المعالجة والتنفيذ وأصالته تقتصر على فكرته فقط، ثم يغادر منطقته ليدخل في نطاق أفلام الرعب. لا بأس من الخلط بين الصنفين لكن ليس بالطريقة الرخيصة المتبعة هنا. فمتعة أي فيلم هي عندما يوقظ مشاعر المشاهد تلقائياً استجابة لما يقع من أحداث وليس من خلال إكراهه على الاستجابة للفيلم.
ونختم بـ Predestination عام 2015 ذلك الفيلم المجنون، وهو أحدث فيلم سفر عبر الزمن، عن عميل وكالة مكافحة إرهاب يسافر إلى العام 1975 للقبض على إرهابي مقنع اشتهر بلقب Fizzle Bomber في نيويورك. وعندما يفشل العميل في إيقاف الإرهابي مراراً وتكراراً يصاب بالتشوش نتيجة كثرة استخدامه لآلة الزمن.
الفيلم مقتبس من قصة قصيرة بعنوان All you Zombies لروبرت هينلين عام 1958 الذي كتبها في يوم واحد.
الفيلم كاللغز ولا يكشف الإرهابي إلا في المشهد الأخير الذي يصيب المشاهد بصدمة ويجعله يفكر لأيام في الفيلم. لكن المشاهد الذي يدقق في الفيلم قد يكتشف مفتاح اللغز المدسوس بذكاء شديد في مشهد الحانة.
يذكر أن Predestination هو أكثر الأفلام ابتكارا لتصميم آلته الزمنية التي تبدو كحافظة كمان وعليها أرقام لتحديد اليوم والشهر والسنة كتلك الموجودة على أقفال الحقائب.
غموض في «دوني داركو»
طرح فيلم «دوني داركو» عام 2001 وهو من صنف الأفلام المستقلة ومن الأفلام التي لم تحصل على حقها من النقاد. الفيلم من بطولة جيك ييلنهايلي وكتابة وإخراج ريتشارد كيلي عن فتى مراهق ينجو من حادث تحطم طائرة فوق منزله يبدأ بعده بمشاهدة رؤى غريبة يظهر فيها أرنب ضخم يطلب منه ارتكاب جرائم.
يعتبر من أشد الأفلام غرابة ويحافظ على غموضه حتى المشهد الأخير الذي يفك فيه المخرج لغز الأرنب لتضح الصورة تماماً عما كان يحدث للفتى. اتهم النقاد الفيلم بالغموض الشديد وأشاروا إلى عدم وضوح رؤية المخرج. عام 2004 أعاد المخرج طرح الفيلم من جديد في صالات السينما الأميركية بإضافة مشاهد تشرح الغموض. لكن في النسخة الحديثة أفسدت كثرة التفسيرات متعة الفيلم حيث كان يعتمد على تفكير المشاهد وخروجه بتأويلات مختلفة.