فقدت المملكة العربية السعودية أخيراً، واحداً من خيرة سفرائها وأكثرهم همّة ونشاطاً وإخلاصاً في خدمة وطنه ودينه. ففي يوم 9 يناير الجاري، انتقل إلى جوار ربه في العاصمة اللبنانية بيروت، الشيخ فيصل بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن الحجيلان، السفير السعودي الأسبق لدى فرنسا، وعميد السلك الدبلوماسي فيها عن عمر ناهز 90 عاماً، وبذلك غابت شمس رجل مثقف وأحد رجالات الدبلوماسية السعودية من أمثال عبدالعزيز بن معمر، وناصر المنقور، وعبدالرحمن أبا الخيل، وغيرهم ممن التحقوا بالخارجية السعودية عندما كانت عبارة عن مبنى مؤلف من طابقين يقع على طريق المطار القديم في مدينة جدة، ولم يكن آنذاك يعمل فيها أكثر من 30 موظفاً.
من خلال تتبعي وبحثي عن المرحوم فيصل الحجيلان، لاحظت وجود خلط بينه وبين الشيخ جميل بن إبراهيم الحجيلان، وفي الواقع أن الشخصيتين لا تتشابهان شكلاً ولا تتطابقان في اسم العائلة فحسب، حيث لا وجود لصلة القرابة بينهما، وإنما تتشابهان لجهة السيرة الدراسية والوظيفية، فكلاهما من مواليد عام 1929، ودرسا في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حالياً) في عهد الملك فاروق الأول، وتخرجا منها قبل بداية العهد الجمهوري في مصر، والتحقا بكلية الحقوق في الفترة الزمنية ذاتها تقريباً، كما عمل كلاهما بعد التخرج في الخارجية السعودية، متدرجين في مناصب دبلوماسية مختلفة، بل إن كليهما توليا حقيبة الصحة في زمنين مختلفين، ثم صارا سفيرين في باريس في فترتين مختلفتين أيضاً.
حقيبة الصحة
الاختلاف الوحيد بين الرجلين - كما يتبين من مقال الإعلامي والمؤرخ السعودي د. عبدالرحمن الصالح الشبيلي، المنشور في جريدة «الشرق الأوسط» بتاريخ (10/11/2013)، تمثل في أن الشيخ جميل الحجيلان هو من أسس وزارة الإعلام السعودية عندما استُدعي من منصبه كأول سفير للسعودية في الكويت، ليـُكلف بإنشاء جهاز إعلامي قوي قادر على إسماع صوت بلاده وسياساتها للعالم الخارجي، في وقت كانت فيه المملكة محاطة بأنظمة ثورية تحاول النيل منها ونشر الأكاذيب والافتراءات حولها وتشويه صورتها والسخرية من قدراتها.
وهكذا شغل جميل الحجيلان حقيبة الإعلام لمدة عام ونصف العام في عهد الملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود، ولمدة 6 سنوات في عهد الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود، قبل أن يكلفه الأخير بحقيبة الصحة بالإنابة مع احتفاظه بحقيبة الإعلام، ومن ثمّ تعيينه وزيراً أصيلاً للصحة، وقبل أن يتم اختياره بعد سنوات طويلة لشغل منصب الأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية من 6 أبريل 1996 ولغاية 31 مارس 2002.
أما فيصل الحجيلان فقد تأخر توزيره إلى عام 1985، وذلك عندما اختاره خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود، وزيراً للصحة، خلفاً للراحل د. غازي بن عبدالرحمن القصيبي، حيث ظل ممسكاً بهذه الحقيبة المسؤولة عن صحة الملايين من المواطنين والمقيمين والحجاج حتى عام 1995، ليخلفه في منصبه د. أسامة عبدالمجيد شبكشي.
ولد فيصل الحجيلان في مدينة جدة عام 1929، ابناً لعائلة نجدية من مدينة بُريدة في إقليم القصيم بوسط نجد، ويعود نسب عائلته إلى قبيلة تميم، وينتشر أبناء العائلة في داخل المملكة وخارجها. التحق بجامعة فؤاد الأول المصرية عام 1947، بعد إتمام دراسته الأولية في مدرسة البعثات بمكة المكرمة، وتخرج عام 1951 حاملاً «ليسانس» الحقوق. وبعد عودته إلى السعودية، التحق عام 1952 بالعمل في وزارة الخارجية، التي كان يحمل حقيبتها آنذاك نائب الملك في الحجاز الأمير فيصل بن عبدالعزيز آل سعود.
تدرج وظيفي
منذ ذلك الوقت راح فيصل الحجيلان، يتدرج في العديد من الوظائف داخل الديوان العام للخارجية، وفي العديد من سفارات المملكة حول العالم، حيث بدأ كملحق (سكرتير ثانٍ) في عام 1954 ثم تمت ترقيته إلى سكرتير أول عام 1958، لينقل من بعدها إلى ديوان مجلس الوزراء في الرياض، ليصبح في عام 1960 مستشاراً للملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود، وبعد ذلك بفترة قصيرة عُيّن سفيراً للسعودية في مدريد (أسبانيا) وذلك في 1961، لينقل بعد 8 أعوام إلى العاصمة الأرجنتينية بوينس إيريس، حيث عُيّن سفيراً لبلاده هناك، وكذلك في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، ثم نُقل مجدداً في عام 1976 إلى العاصمتين البريطانية والدنماركية كسفير مقيم في الأولى وغير مقيم في الثانية.
بعد ذلك، تم تعيينه سفيراً لدى الولايات المتحدة في عام 1979 إبان عهد الرئيس جيمي كارتر، خلفاً للسفير الشيخ عبدالله علي رضا، الذي كان يشغل المنصب منذ 1975، وقد اعتبر هذا التعيين بمثابة ترقية مستحقة لفيصل الحجيلان، كون تولي مسؤولية السفارة السعودية في واشنطن لا يُعهد إلا إلى الشخصيات الدبلوماسية السعودية ذات الخبرة الطويلة، وذلك بحكم العلاقات السياسية الخاصة بين الرياض وواشنطن، وخصوصاً في تلك الفترة الحرجة من تاريخ المملكة والعالمين العربي والإسلامي التي تقاطعت مع الغزو السوفييتي لأفغانستان وقيام الثورة الإيرانية.
وفي عام 1983، عندما فاز رونالد ريغان رئيساً للولايات المتحدة، انتهت مهام فيصل الحجيلان الدبلوماسية في واشنطن، فترك مهمة تمثيل بلاده لدى الولايات المتحدة للأمير بندر بن سلطان، وعاد إلى وطنه، حيث عُيّن وزيراً للدولة وعضواً في مجلس الوزراء، ثم عـُهدتْ إليه حقيبة الصحة خلال الفترة من 1985 إلى 1995.
بعد تركه لوزارة الصحة، لم ينقطع فيصل الحجيلان عن الشؤون الصحية كلياً، إذ تولى رئاسة مجلس إدارة جمعية الهلال الأحمر السعودي، وضاعف من نشاطه في جمعية مكافحة التدخين، كما أسندت إليه وظيفة «مندوب مفوض» من قبل الدولة في صرحين صحيين كبيرين هما، مستشفى الملك فيصل التخصصي، ومستشفى الملك خالد التخصصي بالرياض.
حصيلة
غير أن الرجل سرعان ما قرر العودة إلى المكان الذي بدأ منه الانطلاق في مشواره الوظيفي وهو وزارة الخارجية السعودية، فتم تعيينه في عام 1996 سفيراً لدى فرنسا في عهد الرئيس الأسبق جاك شيراك، وظل يمارس مهامه هناك حتى ديسمبر 2003، حينما خلفه د. محمد آل الشيخ، الأكاديمي الحاصل على ماجستير الحقوق من جامعة «ريمس» الفرنسية ودرجة الدكتوراه في القانون من جامعة «كليرمون فيرون» بوسط فرنسا.
بعد رحلة دامت 5 عقود في عوالم الدبلوماسية والتنقلات في أهم العواصم العالمية، انتهت في باريس، التي ضاعفت من حصيلة فيصل الحجيلان المعرفية والفكرية وعلاقاته الشخصية، خلد الرجل إلى الراحة، مقيماً ما بين جنوبي فرنسا وبيروت مع زيارات إلى الرياض من وقت إلى آخر، وظل على هذا الحال إلى أنْ وافاه الأجل.
جاء في تقرير عن فيصل الحجيلان نشرته صحيفة «إيلاف» الإلكترونية في يوم وفاته، أن الرجل اتهم من قبل الباحث العراقي د. مفيد الزيدي في الصفحتين 121 و122 من كتابه الموسوم «التيارات الفكرية في الخليج العربي 1938-1971»، الصادر عن «مركز دراسات الوحدة العربية» في بيروت عام 2000، بأنه كان - إضافة إلى ناصر المنقور، وعبدالعزيز بن معمر، وم. عبدالله الطريقي - من مؤسسي تنظيم «نجد الفتاة» الذي ظهر في مطلع ستينات القرن 20، على غرار جمعية «تركيا الفتاة»؛ من أجل التغيير والإصلاح السياسي، غير أن هناك الكثيرين ممن فندوا هذا الاتهام وأقاموا الدليل على عدم صحته.
من هؤلاء الباحث والمؤرخ محمد بن عبدالله السيف، في كتابه «ناصر المنقور أشواك السياسة وغربة السفارة»، الصادر عن «دار جداول» في بيروت عام 2015، حيث كتب تحت عنوان «نجد الفتاة وحكاياتها» ما مفاده بأن فيصل الحجيلان وقت ظهور هذا التنظيم كان على رأس عمله سفيراً لبلاده في مدريد، وبأنه ظل كذلك حتى بعد إقالة الوزارة التي أطلق البعض عليها اسم «حكومة الشباب» زمن الملك سعود بن عبدالعزيز آل سعود، فلو صدق أنه كان من مؤسسي التنظيم المذكور أو أحد أعضائه لما استمر في عمله الدبلوماسي الرفيع في إسبانيا.
انفتاح
ومما ينفي عن فيصل الحجيلان تلك التهمة أيضاً أنه - عدا عن كونه منحدراً من عائلة نجدية معروفة، وعدا عن عمله فترة قصيرة في الديوان الملكي في الرياض - لم تكن له علاقة بنجد، فقد ولد ونشأ وترعرع في الحجاز، قبل أن يذهب للدراسة في القاهرة كما أوضحنا آنفاً.
إضافةً إلى أن أبيه وأعمامه عاشوا في مصر كتجار للإبل والخيول كونهم من جماعة «العقيلات»، التي اعتادت الانتشار في العراق وفلسطين وبلاد الشام ومصر للتجارة، وبالتالي تنتفي عنه شبهة العصبية لإقليم نجد، وتتأكد حقيقة أنّ تاريخه الفكري الخاص منسجم مع الانفتاح على الهويات المتعددة، وبعيد عن الانغلاق والعنصرية والجهوية.
كما لم تكن تلك هي التهمة الوحيدة التي وُجهتْ إليه! فقد اتهم أيضاً بميوله اليسارية، حيث نسب الكاتب الروسي ألكسي فاسيليف في كتابه الموسوم «الملك فيصل: شخصيته وعصره وإيمانه»، الصادر عن «دار الساقي» في بيروت عام 2012، إلى التقرير السنوي لوزارة الخارجية البريطانية عام 1961، عن السعودية قوله إنه ظهر لبعض الوقت في ديوان الملك سعود مستشاران شخصيان من ذوي الميول اليسارية هما فيصل الحجيلان وعبدالعزيز المعمر، وعلى فرض أن فيصل الحجيلان كان ميالاً لليسار آنذاك كالكثيرين من العرب في تلك الحقبة، فإن تلك النزعة كانت نزعة طفولية وقتية لم تستمر طويلاً، وتخلى عنها الرجل سريعاً في فترة نضوجه الفكري، وإلا لما تم اختياره ليمثل بلده في واشنطن، في أوج الحرب الباردة بين الشرق والغرب.
أوسمة
حصد فيصل الحجيلان خلال مسيرته على وسام «الملك عبدالعزيز» من الدرجة الممتازة، ووشاح «الملك عبدالعزيز»، ووسامي «غراند كروز»، و«إيزابيلا لا كاتوليكا» من إسبانيا، ووسام «مايو غراند» من الأرجنتين، ووسام «فارس الإمبراطورية البريطانية» من المملكة المتحدة، ووسام «ريو براتكو» من البرازيل، ووسام «لوبير أنادو أوفيسيال» من فنزويلا.
1977
تزوج الشيخ فيصل بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن الحجيلان بـ(نهلة) عندما كانت تتلقى دراستها في تخصص القانون في دمشق (سوريا)، علماً بأنها من مدينة دير الزور.
وحينما اصطحبها معه إلى لندن وباريس خلال الأعوام التي مثّل بلاده فيهما، كانت نهلة من زوجات السفراء السعوديين القلائل آنذاك اللواتي ظهرن علناً إلى جوار أزواجهن في العديد من حفلات الاستقبال الدبلوماسية، وسخّرن جهودهن لإعطاء انطباع مذهل عن المرأة السعودية المتحضرة والمتكيفة مع الثقافات الأجنبية لاسيما الغربية، على نحو ما فعلته قبلها (كرم الحجيلان)، زوجة الشيخ جميل بن إبراهيم الحجيلان، و(عصمت الحجار)، زوجة السفير عبدالله بن عبدالرحمن الملحوق، و(سوسن عبدالسميع)، زوجة السفير ناصر بن حمد المنقور.
وقد وصفتها الكاتبة والصحفية الأمريكية سالي كوين، في مقال لها بصحيفة «الواشنطن بوست» الأمريكية، المنشور في يوم الأربعاء (20/7/1977) على إثر التقائها بها في لندن، بأن «من لا يعرفها يعتقد للوهلة الأولى بأنها سيدة من سيدات المجتمع الأرستقراطي البريطاني؛ بسبب أناقتها ولغتها الإنجليزية السليمة، وقدرتها على إضفاء الدعابة والمرح والدبلوماسية على حديثها، مع استثمارها تخصصها الحقوقي في الدفاع المنطقي عن وطن زوجها إزاء الأسئلة الاستفزازية التي عادة ما تُطرح في الإعلام الغربي عن العادات والتقاليد في المملكة العربية السعودية بقصد الإثارة أو التشويه المتعمد».
صفحة مُتخصّصة بالتأريخ الاجتماعي لمنطقة الخليج العربي