محمد أمين عبدالله بستكي، واحد من رجالات عُمان غير المعروفين كثيراً خارج حدود السلطنة، على الرغم من دوره المؤثّر على صعيدين خطيرين، أولهما: قيامه في عهد السلطان سعيد بن تيمور (1932-1970) بعملية تنظيم إيفاد أبناء وطنه إلى الخارج من أجل العلم، وتوفير معاهد الدراسة المناسبة لهم في الدول المجاورة، وثانيهما قيامه في عهد السلطان قابوس بن سعيد بإثراء المكتبة العُمانية والخليجية والعربية بترجمات متقنة للعديد من المؤلفات التاريخية إلى اللغة الإنجليزية التي كان يجيدها إجادة تامة، لاسيما تلك المؤلفات الخاصة بتاريخ عُمان والخليج العربي.
حاول رجل الأعمال العُماني حسين حيدر درويش، وهو من أبناء عائلة تعرف في الإمارات وعُمان والبحرين باسم الزعابي، أنْ يخلّد ذكرى صديقه ورفيق دربه محمد أمين بستكي، ويوثّق سيرته من خلال كتاب صغير بعنوان «مناضل من عُمان»، لكنه خرج عن هدفه الرئيس إلى سرد قصته الذاتية ومعايشته للأحداث والتطورات في وطنه، مع شنّ هجوم عنيف على «الاستعمارين البريطاني والأمريكي»، ناهيك عن توثيق ما سمّاه «الحركة الوطنية اليسارية في الخليج العربي» وعلاقاتها بالقوى الخارجية مع تسليط الضوء بين الفينة والأخرى على سيرة وجهود بستكي.
أصدر درويش كتابه «مناضل من عُمان» عام 1987 في قبرص وحمل الإهداء التالي «إلى العظماء المجهولين من أبناء هذه الأمة الذين يولدون في الظلام ولكنهم يتطلعون إلى النور ويتجهون نحو الشروق وينشدون الشفق دون ملل أو كلل حتى تغمض أعينهم في الظلام»، ثم أعاد طباعته عام 1990 لمّا علم بنفاد الطبعة الأولى وسمع بإشاعة مفادها بأن جهات مجهولة قامت بشراء كل النسخ وحرقها كي لا تصل إلى أيدي القرّاء العُمانيين والعرب، وسواء صدقت تلك الرواية أو لم تصدق، فإن المؤلف بادر إلى نشر كتابه على حلقات في مجلة «الأزمنة العربية» الصادرة من قبرص ابتداءً من عددها رقم 164.
اشتكى درويش مراراً من انتقادات كثيرة وجهتْ إليه من قبل بعض من ظهرت أسماؤهم في كتابه، بدعوى أنه أظهرهم في صورة نشطاء سياسيين في يوم ما. كما انتقده البعض الآخر لأنه تجرأ وعبّر عن رأيه الشخصي في الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، وذلك حينما كتب في الفصل السادس المعنون بـ«على ضفاف النيل»: «... إن من أخطاء جمال عبدالناصر الجسيمة عدم تطبيق النهج الديمقراطي خلال الثمانية عشر عاماً من حكمه».
في هذا السياق كتب الرجل في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه: «لقد اقترح علي الكثير ممن قرأ الطبعة الأولى من كتابي هذا بأن أحذف كلمتي (من أخطاء) اللتين توحيان طبعاً بكثير من الأخطاء، واستبدالهما بكلمة (خطأ) فأبيت. واقترح الآخرون أن أحذف من العبارة كلمة (جسيمة)، فأبيت أيضاً...».وفي تلك المقدمة نقرأ أيضاً: «لا أبتغي من تأليف كتابي هذا، ولا مما يسطره قلمي سوى وضع الحقائق أمام القارئ، وللأجيال القادمة، بصدق وإيمان، دون تحيز أو محاباة. وقد أدركتُ منذ الوهلة الأولى أن كتاباتي هذه التي بدأ قلمي بخطها منذ أكثر من 3 عقود مضت سوف تجلب لي المشاكل وتلحق الأضرار بمصالحي الشخصية، ولكني وجدت تلك التضحيات تهون أمام الهدف المنشود في كشف الحقائق وإعلاء كلمة الحق..».
ونجد في الصفحة 3 من كتابه نصاً آخر حول دوافعه للكتابة عن صديقه، وفيه أنه لم يفعل ذلك بدافع الصداقة الوطيدة فحسب، وإنما أيضاً ليسجل صفحة من صفحات تاريخ مواطن يجب أنْ يعتز به وطنه العُماني، مضيفاً: وبهذا الدافع الشخصي والوطني معاً قررتُ الكتابة عن الأستاذ محمد أمين عبدالله، وكم تمنيت لو مضيتُ قبله كي يسقط عن كاهلي هذا الواجب، لكن ليس لي خيار فيما اختاره القدر، ولي عزاء في رثاء أمير الشعراء أحمد شوقي لحافظ إبراهيم
قد كنتُ أؤثر أنْ تقول رثائــي...
يا منصف الموتى من الأحياءِ
لكن سبقت، وكل طول سلامة...
قدر وكل منية بقضـــــــــــاءِ
مولده
ولد محمد أمين عبدالله البستكي في مسقط عام 1915، ابناً لأسرة تعود أصولها إلى مدينة بستك الواقعة اليوم ضمن محافظة هرمزكان التي كانت حتى عام 1868 تحت إدارة الإمبراطورية العُمانية الممتدة من سواحل شرق أفريقيا حتى سواحل بندر عباس.
تلقى تعليمه الأساسي الذي كان مقتصراً في تلك الفترة على اللغة العربية وعلوم الدين (وفق المذهب الشافعي) في مسقط رأسه على يد مدرسه أبودينة، لكن طموحاته العلمية والثقافية قادته إلى الاعتماد على نفسه بشتى الوسائل الممكنة، خصوصاً في ظل انعدام المدارس النظامية بمراحلها المعروفة آنذاك.
وهكذا اكتسب ثقافة رفيعة المستوى مقارنةً بغيره من مواطنيه، ما مهد الطريق أمامه للالتحاق بوظيفة في المحكمة العدلية بمسقط، ثم استقال منها ليعمل لدى القنصلية البريطانية، غير أن خلافات ومشادات كلامية وقعت بينه وبين القنصل البريطاني، آثر بعدها ترك وظيفته ومغادرة عُمان إلى كراتشي عام 1947، هرباً من احتمال انتقام البريطانيين منه.
كانت كراتشي حينذاك تتمتع بحرية الكتابة والفكر، وكانت مكتباتها تعج بكتب الشرق والغرب، ما سمح له بالاطلاع على أمهات الكتب في الفكر والسياسة والتاريخ، كما كانت معقلاً للهاربين من أوطانهم، الذين كانوا يجتمعون يومياً حول طاولة في مقهى «شيزان» للحديث عن موضوعات الساعة.
اللقاء الأول
التقى بستكي عام 1950 للمرة الأولى بدرويش القادم من عُمان لدراسة الاقتصاد السياسي بجامعة «كراتشي»، بينما كان بستكي قد سبقه في الالتحاق بتلك الجامعة، وكان يعمل بالتزامن موظفاً بوزارة الإعلام الباكستانية مختصاً بالترجمة من الإنجليزية إلى العربية.
ويعترف درويش في كتابه فيقول (بتصرف): «كان محمد أمين أغزرنا ثقافةً وأوسعنا معرفةً وأعمقنا فكراً، وكان الجميع من المثقفين والسياسيين في المقهى يسارعون بإفساح المكان له، وبحكم عمله في وزارة الإعلام الباكستانية كان مطلعاً على كل أحداث العالم». كما يعترف في مكان آخر بنبوغ وألمعية صديقه فيقول: «بما أنني كنت أدرس الاقتصاد السياسي، فقد وجدتُ محمد أمين ملماً بهذه المادة ولا يقل إلمامه بها عن أساتذة الجامعة، وكثيراً ما كنت أستعين به في شرح بعض النظريات الاقتصادية».
مداولات
ثم ينتقل المؤلف للحديث عن ظروف تأسيس رابطة «الاتحاد العُماني» عام 1952، فيخبرنا أنها كانت ثمرة مداولات طويلة على مدى أشهر في مقهى «شيزان» بينه وبين زميليه بستكي وأحمد محمد الغزالي حول كيفية انتشال بلدهم عُمان من الجهل والفقر والمرض آنذاك.
تحدد أن يكون لـ«الاتحاد العُماني» هدفين في بادئ الأمر تمثلا في: نشر الوعي بين العُمانيين في المهجر الخليجي؛ وفسح المجال للطلبة الذين أكملوا دراستهم الإبتدائية في «المدرسة السعيدية» للخروج من البلاد لإكمال دراستهم الثانوية بالخارج.
وهكذا طرق درويش أبواباً كثيرة في أقطار عربية عدّة، فرفض بعضها واشترط البعض الآخر تقديم طلب رسمي من حكومة عُمان بشأن قبول الطلاب. وكانت مديرية المعارف الكويتية على رأس الجهات التي تفهمت جهود درويش وتعاونت معه وقبلت ترشيحه للطلاب واعتبرته بمثابة طلب رسمي دون الإصرار على موافقة الحكومة العُمانية، وحول هذا كتب درويش ما مفاده بأن الاتصال بينه وبين مديرية معارف الكويت بدأ عام 1952، وأثمر عن فتح المعاهد الكويتية أبوابها بسخاء أمام الطلاب العُمانيين لينهلوا من بحار العلم والمعرفة، وليدرسوا على نفقتها بعيداً عن أي عوائق.
كانت البداية بدفعة من 3 طلاب، تم قبول أحدهم بالقسم الداخلي فوراً؛ بسبب تواجده في الكويت، ثم انضم إليه الآخران بعد دخولهما الكويت بموجب تصريح صادر من المعتمدية البريطانية في البحرين. بعد ذلك وافقت الكويت على استقبال دفعات أخرى من العُمانيين الذين تمكنوا من الخروج من مسقط علاوة على عُمانيين كانوا يعيشون في الخليج العربي إلى أن بلغ عددهم في 1958 نحو 39 طالباً، وحينما تعذّر قبول المزيد منهم، وجّه درويش جهوده صوب أقطار خليجية أخرى فكان له ما أراد.
بعدما حقق «الاتحاد الوطني» نجاحاً في المجال التربوي، أراد أن يوسّع نشاطه نحو المجال السياسي؛ فعهد إلى واحد من مؤسسيه الثلاثة وهو الغزالي بوضع ما عُرف بميثاق «حزب الاتحاد العُماني»، وقام بكتابة الميثاق بخط يده عام 1953، وتضمن 8 مواد رئيسة والعديد من المواد الفرعية، وكانت صياغتها ومضامينها على نسق الدارج في الأحزاب اليسارية لجهة الهياكل وشروط العضوية وكيفية الانتماء وغيرها، وقد اختير درويش لقيادة الحزب تحت إلحاح زميليه بستكي والغزالي.
ويعترف درويش بظهور معارضة من بعض الفئات بُعيد إعلان ميثاق الإتحاد الوطني، ويشير إلى اعتراضات المؤرخ والشاعر العُماني عبدالله محمد الطائي الذي كان وقتها يعمل في التعليم والصحافة بالبحرين، علماً بأن اعتراضات الطائي كان محورها بعض الوسائل التنفيذية ولم تنصب على الهدف الوطني الجامع المتفق عليه بين كل العُمانيين بما فيهم بعض رموز الأسرة الحاكمة مثل فيصل بن علي بن فيصل آل سعيد (تولى حقيبتي التربية والتعليم والتراث القومي والثقافة كما شغل منصب السفير في واشنطن والأمم المتحدة في عهد السلطان قابوس).
في فبراير 1982 نقل بستكي من القاهرة، التي كان يزورها، إلى مسقط وأدخل أحد المستشفيات على عجل بسبب تردي صحته. بلغ الخبر أسماع صديقه درويش في دبي فسارع إلى العودة إلى مسقط ليكون بجوار زميله في الكفاح فوجده لا يقوى على الكلام. وحينما زاره في صبيحة اليوم التالي وجده في حالة احتضار، وبجواره زوجته وزميلهما الجمالي.
رحيل
فارق بستكي الحياة يوم 18 يناير 1982، تاركاً خلفه للمكتبة العربية جملة من الترجمات بلغت 22 كتاباً كلها من إصدارات وزارة التراث القومي والثقافة بالسلطنة أهمها، «صحار عبر التاريخ» تأليف أندرو ويليامسون، «عُمان في صفحات التاريخ» بقلم روبين بيدويل، «ملحق البلاد السعيدة» بقلم سير آرثر كيث ويليون ماريون كروجمان، «بريطانيا والخليج 1795-1870» جون. ب. كيلي، «عُمان وشرقي أفريقية» تأليف أحمد حمود المعمري، «عُمان: تاريخاً وعلماء» تأليف أ. ف. سي. ولكنسون، «البوسعيديون: حكام زنجبار» ألفه بالانجليزية عبدالله بن صالح الفارس، «لمحة تاريخية عن المباني الأثرية في مسقط» روت هولي، «الأفلاج ووسائل الري في عُمان» تأليف جي. رسي. ولكنسون، «الخليج: بلدانه وقبائله» س. ب. مايلز.
عاشق القاهرة
عاش محمد أمين بستكي فترة من حياته بالقاهرة، التي عشقها بكل جوارحه، وعمل بمكتب إمامة عُمان، وهناك عاد لنشاطه القديم بترجمة الكتب من الإنجليزية للعربية ومحاولة بيعها في الأقطار الخليجية، غير أن كثيراً من الكتب مُنعت وخافت المكتبات تصريفها، رغم محاولات صديقه حمدان عبدالله التوسط لإزالة هذه العوائق.
وبوقوع نكسة يونيو 1967، ساءت نفسية بستكي وجمّد نشاطه في مصر لكنه آثر البقاء فيها. وفي 1974، أي بعد مضي 4 سنوات على نهضة عُمان على يد السلطان قابوس، عاد بستكي إلى وطنه لينضم إلى أصدقائه الثلاثة في المهجر (حسين درويش وأحمد الجمالي وحمدان عبدالله) الذين عادوا استجابةً لدعوة رئيس الوزراء العُماني طارق بن سعيد، ضمّنها بتأمين أمنهم وسلامتهم وحريتهم وتعيينهم بمناصب حكومية، تعويضاً لسنوات الغربة.
مهمات وطنية
قرر محمد أمين بستكي عام 1953 مغادرة باكستان نهائياً، بفعل الضغوط التي تعرض لها من وزارة الإعلام للترويج لأفكار معينة متعلقة بالنموذج السياسي الباكستاني القائم على إثارة الحماس الديني فيما كانت رغبته متمثلة بحصر عمله في ترجمة الكتب العربية إلى الإنجليزية فحسب. ومن الأسباب الأخرى التي دعته لمغادرة باكستان التواجد بالقرب من العاملين في الاتحاد العُماني.
وهكذا، وصل الرجل إلى الكويت، التي شهدت آنذاك نشاطاً طلابياً عُمانياً قابلاً للاستثمار في تحقيق أهدافهم الوطنية، وحصل على وظيفة في ميناء الكويت (1953-1955)، وعمل على ترسيخ مبادئ الاتحاد العُماني بالتنسيق بين لجانه المحلية في الأقطار التي تواجد فيها العُمانيون وقتذاك، والاتصال بمحرري الصحف والطبقة المثقفة، وساعده بهذه المهمات الوطنية مواطنه حمدان عبدالله مدير عام دائرة بريد الكويت آنذاك.
صفحة مُتخصّصة بالتأريخ الاجتماعي لمنطقة الخليج العربي