أظهرت دراسة حديثة أن عالم النبات تحت الأرض أشبه بشبكة اجتماعية تسودها التحالفات القوية ومحاباة الأقارب. ويقول العلماء إن فك شيفرة الرسائل المتبادلة بين تلك الكائنات قد يفضي إلى تغيرات جذرية في أساليب التعامل مع المزارع والغابات وقد يفيدنا حتى في تطوير شبكاتنا الاجتماعية البشرية.
وفي كل خريف تجتاح أسراب فراش الغبار الرمادي غابات أشجار البتولا الممتدة على المنحدرات الجبلية بشمال اسكندنافيا، وتضع بيوضها على الأغصان، لتفقس بحلول الربيع يرقات تلتهم الأوراق المتبرعمة. ويبدو أنها معركة خاسرة بالنسبة للأشجار التي لا تملك أية دفاعات طبيعية، لكن بعضها يملك سلاحاً سرياً. فهي تكون تحالفات مع نبات مجاور، من الفصيلة الخلنجية، مستعيرة بهبات من مبيداته الحشرية الطيّارة كنوع من التمويه الشمي. »وهذه أول مرة يتم فيها رصد مثل التفاعل بين النباتات في بيئاتها الطبيعية«، كما يقول جارمو هولوباينين، من جامعة إيسترن فنلاند، الذي توصل إلى الاكتشاف. وتعتبر دراسته واحدة من أحدث الدراسات التي تسلط الضوء على العلاقات المعقدة بشكل غير متوقع بين النباتات.
ويعرف العلماء منذ زمن أن النباتات تستجيب لبعضها البعض، لكن الآن فقط بدأوا يدركون مدى دقة وتطور تفاعلها أو تواصلها فيما بينها. فالنباتات تتنصت باستمرار على الثرثرة الكيمائية لبعضها البعض أحيانا بشكل ينم عن تعاطف، وأحيانا أخرى بشكل أناني. وبعض النباتات مثل أشجار الأزهار الخلنجية تساعد جاراتها عن طريق مشاركتها في مواردها. والبعض الآخر يتعرف على الأقارب من الفصائل الأخرى ويحابيهم على الغرباء. وهناك أيضاً نبات متطفل يسترشد بالرائحة الكيميائية المميزة للنبات المضيف ليتلمس طريقه إليها.
وتقول سوزان سيمارد، عالم إيكولوجيا الغابات في جامعة بريتيش كولومبيا في فانكوفر بكندا، إن »النباتات لا تذهب إلى الحفلات أو إلى السينما، لكن لديها شبكات اجتماعية متماسكة، وهي تدعم بعضها البعض وتقاتل من أجل بعضها البعض. وكلما تعمقنا في دراسة إشارات وتواصل النبات، كلما دهشنا بمدى تطورها وتعقيدها«.
ولعل أفضل مكان للبحث عن مظاهر هذا التفاعل بين النباتات هو المحيط الجذري، وهو المنطقة الملاصقة لجذور النباتات وفيها تنمو ميكروبات تتركز بأعداد ضخمة حول جذور النباتات النامية التي لها تأثير مشجع لهذه الميكروبات يختلف من نبات إلى آخر وحسب عمر النبات. وتحت أرض الغابة، تحتوي كل حفنة من التراب على ملايين الكائنات الدقيقة من البكتيريا والفطريات والتي تشكل علاقة تكافلية مع جذور النباتات، حيث تساعد البكتريا جذر النبات المضيف على امتصاص الماء والعناصر الحيوية مثل النيتروجين في مقابل الحصول منه على إمدادات ثابتة من المواد المغذية.
والآن أظهرت دراسة مستفيضة أن الخيوط الفطرية تشكل ضفائر تربط ما بين جذور عشرات الأشجار، كثير منها من أنواع مختلفة، مشكلة شبكة مايكوريزالة واحدة. وهذه الشبكات التي تنتشر تحت أقدامنا عبارة عن شبكات اجتماعية حقيقية. ومن خلال اقتفاء أثر حركة نظائر الكربون المشعة عبرها، وجدت سيمارد أن الماء والمواد المغذية تتدفق في أحيان كثيرة من الأشجار التي تصنع كميات فائضة عن حاجتها من الغذاء إلى تلك التي ليس لديها كفايتها من الغذاء. وعلى سبيل المثال اكتشف العلماء أن أشجار تنوب دوجلاس الأكبر سنا تنقل الجزيئات التي تحتوي على الكربون والنيتروجين إلى الشجيرات الصغيرة من نفس الفصيلة عن طريق الشبكات الميكوريزالية، ولاحظوا ان الشجيرات الأكثر اتصالاً بتلك الشبكات تنعم بأفضل مستويات من الصحة.
وفضلاً عن التشارك في الموارد الغذائية، ربما تسمح الارتباطات الميكوريزالية للنباتات بتبادل المعلومات أيضاً. ويعرف علماء النبات منذ فترة ان النباتات يمكن أن تستجيب لإشارات الدفاع المرسلة هوائياً من النباتات الأخرى التي تتعرض لهجوم. وعلى سبيل المثال، عندما يبدأ يعسوب في التهام نبات طماطم، تنتج أوراق النبات مركبات مؤذية تطرد المهاجم، بينما تحفز في الوقت نفسه النباتات المجاورة للتأهب وتجهيز دفاعاتها الخاصة استعداداً لهجوم محتمل من قبل حشرات اليعسوب. والآن اكتشف الباحثون في جامعة ساوث تشاينا الزراعية في جوانزو بالصين أن الجذور أيضاً عندما تصاب بأمراض فطرية ترسل إشارات تحذير عبر الشبكات الاجتماعية الميكوريزالية إلى جذور النباتات المجاورة لحضها على تهيئة دفاعاتها الكيميائية المضادة لتلك الإصابة الفطرية. كما وجد فريق الجامعة نفسها ان بعض النباتات تستطيع التعرف على أبناء فصيلتها من أصناف النباتات الأخرى وتعمل معها من أجل الصالح العام للفصيلة.
توثيق الحوادث
منذ تطوير تقنيات التصوير الفوتوغرافي بطريقة الفواصل الزمنية، تمكن الخبراء من توثيق الحوادث المختلفة في المجتمعات النباتية ذات »الكثافة السكانية« العالية مثل الرقصات والشجارات، فالشجيرات الصغيرة على أرض الغابة تتنافس على المساحات لتمدّ جذورها وأغصانها، والأشجار الساقطة توفر الغذاء للشجيرات اليافعة، وكرمات العنب تنطلق في كل اتجاه بحثاً عن جذع شجرة تتسلق عليه لتصل إلى الضوء، والورود البرية تتسابق فيما بينها لتفتح أزهارها في وقت الربيع وتتنافس على جذب انتباه الملقحات. لكن من أجل فهم الحياة الاجتماعية السرية للنباتات، لا بد من النظر وإصغاء السمع على مسافة أقرب.