« كنت في طريقي من دمشق إلى حمص، عندما مررنا بهذا المكان، وكان في حالةٍ يرثى لها، لكن شيئاً ما تحرك في داخلي نحوه لذا قررت العودة لأرى ما الذي يمكننا أن نفعله». هذا ما تقوله الأم أغنيس مريم الصليب المشرفة على دير مار يعقوب المقطع وهو أهم معالم قرية قارة (80 كلم شمال دمشق).
تقع قارة في سلسلة جبال القلمون العليا على هضبة صغيرة، وترتفع عن سطح البحر 1300 متر. ذكرها الجغرافي ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان)، وبحسب الأطلال والمخطوطات فهناك ذكر لعدد كبير من المعابد والآثار والحضارات المتلاحقة فيها منذ العهد الروماني حتى اليوم، منها كنيسة القديس نقولا التي تم تحويلها إلى جامع بأمر من الملك الظاهر بيبرس سنة 1266، وكنيسة سرجيوس وباخوس، ولكن يبقى أهم هذه المعالم اليوم دير القديس مار يعقوب المقطع الواقع إلى الغرب من القرية على بعد 2 كلم.
تشير الأم أغنيس مريم الصليب إلى أن أعمال الترميم بدأت منذ العام 1992، وانتهت بشكل تقريبي عام 200، مع مجموعة من المتطوعين من أهل القرية، الذين قرروا مساعدتنا في إعادة الحياة لهذا الدير ليكون مركزاً ليس فقط لوحدة الكنيسة إنما لوحدة الأديان، تماماً كما كانت دعوة القديس الذي سمي الدير باسمه.
تعود قصة يعقوب المقطع إلى بلاد فارس، حيث انخرط في خدمة الملك، واستمالته حياة الرغد والمتعة في بلاط الساسانيين، ولم يتوان كسباً للحظوة عند الملك عن التآلف مع الديانة الرسمية للفرس وهي الزرادشتية في تلك الأيام، ما جعله ينحرف عن إيمانه المسيحي. عرفت أمه وزوجته بتبنيه ديانة الفرس فوجهتا إليه رسالةً تعبران فيها عن حزنهما الشديد أمام تخاذله وتتوسلان إليه العودة إلى دينه، وتهددانه بالانفصال عنه نهائياً إذا تمادى في جحوده، وكان لهذه الرسالة أثر صاعق على يعقوب فعاد مجاهراً بإيمانه المسيحي، لكن الملك يزدجر عرف بأمره ولم ينجح في استمالته، فكان الأمر بتقطيعه إلى 29 قطعة، ليستشهد في 27 تشرين الأول أكتوبر من سنة 420 م، وحمل لقب المقطع منذ تنفيذ الحكم فيه.
تكريماً لذكرى يعقوب المقطع، بنيت باسمه عدة أديرة، ضمت قطعاً من أعضاء جسده، منها دير مار يعقوب المقطع في قارة، ويؤكد المؤرخ زكي سرور أن هذا الدير: يعود تاريخ بنائه إلى القرن السادس الميلادي، وشيد في عهد الإمبراطورية الرومانية، على أنقاض حصن روماني قديم.
تضج الحياة اليوم في الدير الذي كان مهجوراً، فوجود قسمٍ للإقامة فيه، وموقعه المميز في منطقةٍ تمتاز بجمال طبيعتها على حدود البادية السورية، جعله مقصداً لكل من يطلب الهدوء والعزلة والسكينة الروحية، وهو ما يدعمه الدير من خلال وجود دروس خاصة بهذا المجال فيه، كما أنه مفتوح لمختلف الناس ومن مختلف المذاهب والطوائف والأديان، فانعقد فيه خلال صيف عام 2009، اجتماعات حوار استمرت عدة أيام بين مجموعة من النساء المسلمات القادمات من لبنان، وراهبات الدير، كل هذا يصب في خدمة الرسالة التي تركها القديس الذي شيد الدير على اسمه.
كما يساعد القائمين على الدير أنه مكتفٍ ذاتياً فهو يحوي مزرعة صغيرة، إضافة إلى وقف ممتد على مساحات واسعة في محيطه مزروع بالأشجار المثمرة، وفيه نبع للماء، ما يجعل الزائر أو المقيم في غنى عن الخروج منه نظراً لتوافر حاجاته فيه.
تختلط فنون العمارة داخل الدير بحسب الأزمنة والحضارات التي تعاقبت عليه، فهو يتألف من بوابةٍ مرتفعة معقودة بقوس مدببة، تعلوها شرفتان ترمزان إلى مصبات الزيت، ويحوي برجاً ضخماً يتألف من أربعة طوابق قواعده من العهدين الروماني والبيزنطي وكان يستخدم لمراقبة القوافل التجارية بين بعلبك ودمشق، كما يحوي كنيسة قديمة وإلى جانبها قبو الشهداء وفيه توجد رفاة القديس يعقوب، وللقبو باب صغير مبني بحسب التقليد السرياني، وبمحاذاة القبو تقع دار مار يعقوب وسميت كذلك لأنها متاخمة للكنيسة وتلف الدار أقواس أيوبية.
يوجد داخل الدير كذلك طاحونة ماء، وإلى جانبها الكنيسة الكبرى التي تعتبر من أهم معالم الدير، وهي بوضعها الحالي ترقى إلى القرن العاشر الميلادي، وتقع في وسط الواجهة الشرقية من الجناح الشمالي للدير وتميل 35 درجة باتجاه الشمال، وهو الغريب على كنيسة بيزنطية ما يجعل فرضية وجود معبد قمري سابق للاستعمال المسيحي واردة جداً.
كما يحوي الدير مغارة كبيرة، وإلى اليسار منها مغارة أخرى صغيرة، والظاهر أنهما استخدمتا لتخزين المؤونة، وفي آخر المغارة الكبرى يوجد نفق يغور 13 متراً في الأرض يقال أنه يصل الدير ببلدة قارة عبر أنفاق ودهاليز.
عاش الدير منذ تأسيسه في القرن السادس الميلادي عصره الذهبي، وأمته وفود الحجاج كأهم دير في منطقة القلمون إلى أن غزاه الملك الظاهر بيبرس عام 1266، فقتل الرهبان ونهب الدير.
كما يؤكد المؤرخ زكي سرور أن غزوةً من التركمان هاجمت الدير في القرن التاسع الهجري أي الخامس عشر الميلادي وهو ما أكده المؤرخ ابن قاضي شهبا في كتابه أيضاً، ثم تعرض إلى هجمات محلية صغيرة إلى أن دخله الجنود العثمانيون عام 1600، وذبحوا 120 من رهبانه ونهبوا ما فيه.
بعد تعرض الدير لعدة نكبات عاشت الحياة الرهبانية فيه حياةً متقطعة وشهد عدة محاولات للترميم لكنها لم تنجح، فمنذ 1730 وحتى 1850 بقي الدير مهجوراً بشكل شبه تام، وفي عام 1930 توفي آخر كاهن مقيم فيه، وبقي مهجوراً إلى أن أتت الأم أغنيس مريم الصليب في تسعينات القرن الماضي ونجحت في إعادة الحياة إلى المكان، بعد أن مضت بروتوكولاً خاصاً في شباط عام 1994 مع المطرانية المسؤولة عن المكان يقضي بتقديم المطرانية للمكان مع كامل الأملاك الموقوفة لصالحه، على أن ترممه الأم أغنيس مريم الصليب وتبقى مشرفةً عليه.
بدأت أعمال الترميم منذ 1992 بجهود بسيطة من أبناء المنطقة الذين تطوعوا من أجل العمل في الدير وترميمه، وجعله مكاناً صالحاً لاستقبال الزوار والراغبين في التعرف عليه، وانتهت بشكل شبه نهائي في عام 2000، والآن يعرف الدير توسعاً ليحوي قاعة للمؤتمرات ونزلاً جديداً لاستقبال الضيوف والراغبين في قضاء وقت من العزلة الروحية في هذا المكان، بعيداً عن صخب المدن والفوضى.
تتجول الأم مريم الصليب في المكان الذي كان حلماً، وعلى وجهها ترتسم أمارات الرضا، فحلمها الذي بدأ من مكان مهجور قبل 18 عاماً، ها هو اليوم بدأ يخرج للنور، ويعرفه الناس ويأتون لزيارته، خاصةً وأنه مفتوح للجميع، على أمل منها في ترسيخ فكرة الوحدة والحوار بين كل أبناء المنطقة وأديانها، وهو ما تعتبره الجزء الأهم من الرسالة التي استشهد لأجلها القديس يعقوب المقطع الذي يحمل الدير اسمه.