الإنسان ابن بيئته، فإذا كان فناناً ارتسمت ملامح الطبيعة من حوله في وجدانه، وفاحت روائحها من خلال إبداعاته، وسُمعت أنغامها تتردد في جنبات فنِّه، لتصبح أعماله صورة صادقة لكل ما يحيط به.

ولأن الإمارات تزخز بمظاهر متنوعة من السمات الجغرافية، واتسعت أرضها الطيبة للجبال الشامخة كما لم تَضِقْ عن البحار الهادرة؛ فإن فنونها الشعبية تلوَّنت بألوان هذه التضاريس المختلفة، واكتسبت ثراء مميزاً يستحق أن يضاء عليه، ويخلَّد ضمن موروثها الثقافي.

وتحتفي مختلف الوجهات والمؤسسات في الدولة بالفنون الشعبية، ومنها مكتبة محمد بن راشد التي نظمت مؤخراً فعالية ثقافية احتفاءً بـ«فن النّهمة»، أحد أبرز الفنون الأدائية التراثية المرتبطة بالبيئة البحرية.

مميزات الأغاني

وقال الملحن الإماراتي إبراهيم جمعة لـ«البيان»: «إن البيئة في الإمارات كان لها دور مؤثر في تشكُّل الفنون والأهازيج التي تنتمي إلى التراث الثقافي غير المادي». مشيراً إلى أن غناء أهل السواحل عموماً يتسم بوداعة الصوت وعذوبته، في حين أن علوَّ الصوت هو أبرز مميزات أغاني الجبال.

وبيَّن جمعة أن فنون المرتفعات الجبلية كما في حتا ورأس الخيمة والفجيرة وكلباء مرتبطة بقوة الحنجرة والحبال الصوتية؛ لافتاً إلى أن أداءها يُعَدُّ نوعاً من التحدي في إسماع كل أهل جبل أصواتهم لأهالي الجبال الأخرى.

وذكر أنه على الرغم من انخفاض مستوى البحر، فإن فن النهمة واليامال تحديداً يؤدى بأصوات عالية؛ لارتباطه بالسفن ومهنة استخراج اللؤلؤ وما يستلزم ذلك من رفع مستوى الطبقة الإيقاعية عند الغناء، مؤكداً أن انعكاس طبيعة البيئة على الفنون شمل أيضاً المصطلحات المستخدمة في كلمات الأغاني.

فنون العمل

من جانبه، أكد الشاعر والمستشار الثقافي خالد البدور، أن الفنون البحرية تنتمي إلى فنون العمل التي تؤدى على ظهور السفن، وتتضمن جرَّ المجاديف والحبال ورفع الأشرعة، وحتى جلسات السمر في الرحلات الطويلة، مشيراً إلى أن ذلك العمل المرهق الذي فرضته طبيعة البيئة البحرية هو الذي أنتج الفنون والأهازيج البديعة التي كانت تخفف على أهل البحر وطأة المشقة، ثم أضحت اليوم جزءاً أصيلاً من ثقافة المجتمع الإماراتي.

وقال البدور، إن الكلمات المؤداة في الأغاني البحرية، مثل «هو يا الله» و«هو يا مال» و«هيلي يا مال»، هي في حقيقتها مصطلحات لغوية يستخدمها النَّهَّامة في غنائهم، وتساعد على الأداء الجماعي للعمل، لافتاً إلى جانب فني آخر من تلك الأغاني يشتمل على قصائد الحنين إلى الوطن والتضرع إلى الخالق.

وأضاف أن اختفاء مظاهر العمل التقليدي التي صاحبت نشأة تلك الفنون وتطورها حوَّلها إلى تراث ثقافي إماراتي يؤدى ضمن جمعيات الفنون الشعبية في الاحتفالات العامة والمهرجانات التراثية والمناسبات الوطنية، موضحاً أن هذا شأن كل الفنون التي نبعت من طبيعة البيئة وارتبطت بها، كما هي الحال في أغاني الحصاد والزراعة والرحيل على ظهور الإبل في الصحراء.

الأداء اللحني

وأوضح مبارك العتيبة، رئيس الفرقة الشعبية لأداء فن النهمة، أن إمارات الدولة تتحد جميعاً في السمات الإبداعية لفن النهمة البحري.

لكنَّ ما يميز كل نهمة عن الأخرى هو الأداء اللحني الذي قد يختلف من بيئة إلى أخرى، ويحقق ثراء في المضمون المشترك، مشيراً إلى أن الهدف من أداء تلك الأهازيج كان متمثلاً في توحيد قوى المشتغلين في البحر وشدِّ أزرهم أثناء العمل.

ولفت العتيبة إلى بعض المصطلحات التي تشتمل عليها النهمة، مثل: «الولمة» التي تعني أن تكون الحركة متناسقة ومتكاملة من البحَّارة، و«السي» التي تُستخدم عند رفع الشراع، و«الشَّبْكة» التي تعبِّر عن التصفيق الجماعي، مؤكداً أن الفنون البحرية من أجمل الفنون الشعبية التي تعبِّر عن خواطر الناس بصدق وتلقائية.

وتطرَّق إلى الأثر الواضح الذي أحدثته طبيعة البيئة البحرية في تشكُّل تلك الفنون والصورة التي تكوَّنت من خلالها، موضحاً أن حركة الأمواج وأصواتها هي التي ضبطت أوزان هذا الإبداع الغنائي، وجعلت له إيقاعات مميزة وكأنها سلَّم موسيقي طبيعي.