تحتل قضية الحفاظ على التراث وأوعيته أهمية خاصة، لا سيما لجهة التعامل مع المخطوطات القديمة، التي مرت عليها عوامل الزمن، فأصابتها بالضعف والوهن، أو أتت على أجزاء منها؛ ومع التقدم العلمي.
وزيادة الاهتمام بالتراث الإنساني، نشأت مراكز متخصصة تقدم خدماتها في هذا المجال، مستعينة بالمعدات والأساليب الحديثة. ولعل من أهم هذه المراكز المتفردة مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي، الذي استطاع أن يحقق المعادلات الصعبة، التي يقتضيها التعامل مع المخطوطات وبقية أنواع أوعية حفظ ونقل التراث.
إضافة إلى أن المركز، بعمله ومجال نشاطه، وتفرده في الساحة العربية، بات يقدِّم صورة مشرِّفة عن دبي وإسهاماتها الجليلة في مجال حفظ التراث وصونه.
40 ألف صفحة شهريّاً
«نحن الرقم واحد من حيث الإنتاج».. بهذه العبارة يؤكد الدكتور بسام داغستاني، رئيس قسم الحفظ والمعالجة والترميم في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي، أن عدد الصفحات التي يتم ترميمها في المركز تفوق غيرها في كل مراكز العالم ذات الاختصاص المشابه.
موضحاً أن معدل صفحات المطبوعات المرمَّمة يبلغ 40 ألف صفحة شهريّاً، في حين تصل عدد الصفحات المخطوطة إلى نحو 7 آلاف، نظر اً للوقت الأطول الذي يستغرقه التعامل مع المخطوطة التي قد تكون هي النسخة الوحيدة لكتاب معيَّن.
ويستذكر الدكتور داغستاني بدايات هذا المشروع الكبير، الذي خدم الثقافة العربية وتعدَّت منافعه العلمية حدود دولة الإمارات، حيث انطلق منذ أكثر من 30 سنة.
مشيراً إلى أن أول مخطوط عمل على ترميمه ومعالجته كان نسخة من كتاب «الموطأ» للإمام مالك بن أنس تنتمي إلى القرن الخامس الهجري كُتبت على رق وكانت مصابة بالرطوبة العالية.
وأشار داغستاني إلى أن الرؤية الإنسانية الشاملة التي يؤمن بها معالي جمعة الماجد، رئيس المركز، كانت هي الأساس المتين الذي قامت عليه هذه الفكرة، فكان اهتمامه بالتراث الإنساني بشتى أنواعه، وبغض النظر عن لغته ودينه ومذهبه، منطلَقاً لإنشاء هذا الصرح الثقافي.
وأوضح الدكتور بسام المتخصص بفن الترميم، والحاصل على الماجستير في فنون المخطوط العربي والإسلامي، ودكتوراه في الترميم، أن عملية الترميم تحتاج إلى مهارات أهمها:
الموهبة والدربة والصبر، وأن الخطأ في هذا المجال غير مقبول على الإطلاق، مؤكداً أن التخطيط الجيد هو ما ميَّز مركز جمعة الماجد ومنحه مكانته المشهودة.
اكتفاء ذاتي
ولفت إلى أن مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث نجح في تحقيق الاكتفاء الذاتي في ما يتعلق بالأجهزة والمواد المستخدمة في الترميم؛ إذ تم ابتكار أجهزة لم تكن موجودة من قبل في العالم بالاعتماد على نظرة شمولية لما هو مستعمل في بلدان أخرى.
مشيراً إلى أن جهاز الترميم الآلي مثلاً، اختُرع أولاً في روسيا، ثم طُوِّر في ألمانيا واستعملته كل الشركات الأوروبية، ولكنَّ خبرات المركز صممت جهازاً خاصاً بأنشطته.
وبيَّن أن الأجهزة المبتكرة في المركز تعتمد على تصوُّر عملي بسيط يراعي الاستمرارية ويقاوم التعطُّل، موضحاً أنها بذلك قادرة على العمل في أي مكان ضمن أي ظروف، في حين تفتقد الأجهزة الأوروبية تلك الميزة، وتحتاج دائماً إلى خبراء وقطع غيار وصيانة، بسبب ارتكازها على تكنولوجيا معقَّدة.
وذكر الدكتور بسام داغستاني أن دور التكنولوجيا يبرز في دراسة المخطوط قبل ترميمه، لافتاً إلى أن ثمة تجارب علمية لتوظيف الذكاء الاصطناعي في أوروبا لخدمة هذا المجال، لكنها لا تخلو من مجازفة يُخشى معها من إتلاف المخطوطات النفيسة التي تمثل ذاكرة الأمة وتراثها العظيم.
وأوضح أن مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث حقق انتشاراً كبيراً بفضل العمل المتقن، فافتتح نحو 52 مختبر ترميم للمخطوطات في العالم العربي والإسلامي مزوَّداً بالأجهزة والمواد والأدوات والتدريب، وأنقذ مئات الآلاف من المخطوطات في العالم.
جولة تطبيقية
وعلى الجانب التطبيقي، كان لـ«البيان» جولة داخل أروقة قسم الحفظ والمعالجة والترميم في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث، حيث استعرض محمد الدالي، رئيس شعبة الترميم اليدوي، المراحل الرئيسة في عملية الترميم حتى الوصول إلى التجليد.
مبيناً الفروق الجوهرية بين التعامل مع كلٍّ من المخطوط والمطبوع. وأوضح الدالي أن التعقيم هو الخطوة الأولى التي يليها التنظيف الجاف إما يدوياً بالفرشاة وإما آلياً بواسطة جهاز مخصص، ثم يأتي دور عملية الترميم يدوياً أو آلياً.
مشيراً إلى أن الترميم اليدوي غالباً ما يُستعمل مع المخطوطات نظراً لنفاستها وقيمتها الفكرية والمادية، بينما يكثر اللجوء إلى الترميم الآلي في الكتب المطبوعة. وكشف أن السبب في ذلك يرجع إلى أن ورق المخطوط مصنوع من مواد نباتية.
إضافة إلى طبيعة أحباره التي تتأثر بالماء الذي يُعَدُّ التعرُّض له جزءاً أصيلاً من عملية الترميم الآلي، موضحاً أن هناك حالات نادرة يُلجأ فيها إلى النوع الآلي في ترميم المخطوطات، بعد اختبار نوع الحبر بدقة والتأكد من عدم تأثره بتلك العملية.
ولفت إلى البُعد الإبداعي في عملية الترميم وما تشتمل عليه من جمال وفن، على الرغم من كونها مهنة شاقة ودقيقة وتستلزم تركيزاً عالياً وصبراً لمعالجة الإصابات المتنوعة التي تضرُّ الصفحات المرمَّمة، مؤكداً ضرورة أن يكون العقل البشري مؤازراً للتكنولوجيا في هذا المجال ذي الحساسية المفرطة منعاً لحدوث أخطاء فادحة تضرُّ بالمحافظة على التراث.
«كما ساعدتنا نساعدها»
ويحكي مراد بسايف، أحد العاملين في قسم الحفظ والمعالجة والترميم في مركز جمعة الماجد للثقافة والتراث بدبي، كيف أثرت مهنة الترميم، التي زاولها مدة 25 سنة، في شخصيته، مؤكداً أنها جعلته أقرب إلى الكتب التي أحب قراءتها منذ الصغر.
ويختصر بسايف، الشيشاني الجنسية، الذي يتقن العربية الفصحى ويحفظ ألفية ابن مالك في النحو، عشقه وسعادته بعمله في عبارة بليغة: «كما ساعدتنا الكتب على التعلُّم، نساعدها على مقاومة الزمن».