Al Bayan

بول لينش : الأدب أمضى سلاح في نُصرة الحق ونشر الجمال

 كما شجو النايات وأناشيدها الرقراقة، تتبدى فضاءات الأدب المصداق المنبري ليروي عذابات أناس لمّا تزل ريح السنين وأهوال الفواجع توغل في ذرو مصائرهم وتهشيم آمالهم. ففي حضرة مقاماتها المسكونة جوى وأسىً.. المخضبة بالدموع والأنين، تأبى صور الكتابة و«كائناتها» أن تنبت وتأتلق بعيداً عن مروج المحبة والعدل، أو أن ترتوي من غير عيون الخير وأفئدة الرأفة، كي تنداح، ورغم حشرجاتها، صداحة مائرة بينما تعرّي كل زيف وتمزق أستار الخنوع، كما حال رواية الإيرلندي، بول لينش: «أغنية النبي»، التي تُدين، بإسقاطاتها ورمزياتها وسكبات أخيلتها، غفوة ضمائر الإنسانية إزاء وقائع ومشاهد الدم والنشيج واللوعات المُطوِّقة شرق عالمنا الأسير النازف، المحكوم، على ما يبدو، بأقدار عتمة لا فكاك منها، فهي ترتحل بنا إلى كروم الحق وبساتين الحقيقة بوساطة أجنحة حكايات، شائقة، لكنها مُقطّرة عذابات ومرارات، ملوّنة بجرأة وضّاحة صارخة يشخّص ويفكك في غمارها حائز جائزة «بوكر» البريطانية 2023م، دقائق مأساة الحرب السورية وويلات اللاجئين، ناسجاً توليفة روائية تعتصرها الغصات وتكويها الحرقات، تُمعنُ في فضح أهوال صمت وإغضاء مريبين تلفعت بهما (ديمقراطيات غربية) مزعومة، يجزم لينش في حواره مع «البيان»، أنهما أسهما في تمهيد دروب توحش الصراعات وتعميق جراحات وويلات اللاجئين، مؤكداً، في سياقات حديثه عن عوالم روايته وموضوعتها ودوافعها، أن الأدب خشبة خلاص عالمنا من واقع الشقاق والتقوقع والتشظّي الحضاري. إذ ليس أكفأ وأفعل منه في تذكيرنا بجمال لُحمَة شعوب المعمورة، وفي ترميم لوحات وئامها المهشمة. ويبين، في الصدد، أن الحراك الأدبي والثقافي العام الذي تشهده دبي، يجسد أحد براهين ونماذج فاعلية ثمار الإبداع في مضامير التقارب الإنساني.

دويّ السرد
أراد لينش «أغنيته» «صرخة روائية» مدويّة، تسرد فصول واحدة من فواجع عصرنا المهولة، النازفة أبداً، فتنبه الغرب الغارق في تجاهله ولامبالاته، إلى أنَّ المصير الإنساني واحد. وأنْ لا مبرر لبقائه عامِهاً في حياده السلبي حيال ما يحدث على الضفة الأخرى من المتوسط، كون الطوفان سيغمر الجميع في نهاية المطاف.. وحراب المقت لن تهجع أو تستثني أحداً:

«تمثِّل «أغنية النبي» سيرة روائية توثّق كلوم ومقاتل ونكبات إخوة لنا ماجت بهم محامل الأزمان فالتهمتهم نيران الحروب واللجوء بينما وقفت دول متقدمة، يُفترض أنها القدوات ومهود التحضّر والعدالة في عالمنا!!»، متفرجة، متخلية عن واجباتها الإنسانية والقيمية، لا تعبأ بسعار ألسنة كارثة ناشبة قربها تغتال حضارة بلد عريق، سوريا، وتُزهق أرواح أناسه الذين كانوا آمنين قبل أن تدُكّ مدافع الضغائن بسمات أطفالهم وتشردهم في بلاد الله.

كنتُ متأثراً وأنا أحوك فصول السرد بطوفان أخبار القتل والمجازر واللاجئين، وانسحاق مجتمع بأكمله وضياع مستقبل أهليه. فاعتزمت أن أدبج الرواية في هيئة بلاغ وتقرير أدبي مؤثر يخاطب ذواكر وضمائر المجتمعات الغربية. يناشدها لأن تسارع إلى المشاركة في إهماد أوار حرائق هذا البلد وسواه من البلدان المأزومة. ولأن تضمّد جراح المنكوبين، وتحتضن وترأف بتلكم المراكب الوافدة إليها وهي متخمة بأنّات ومخاوف شيوخ وأطفال ونساء وكهول وشبان تلتمع في عيونهم رعود الفزع والرغبة في الفرار الدائم والخيفة من المجهول. اعتزمت بحبكتي ههنا، إفهام أبناء الغرب سبب مغامرة وعدم تهيب الزوارق والسفن البالية تلك، اختراق عصف رصاصات حراس سواحلهم وأهوال الأمواج، لتستقر على ضفاف وشواطئ تظنُّها مرتع النجاة.

في هذي العوالم والمدارات تخلّقت روايتي وتحددت سموتها واتجاهاتها. شيّدت معمارها مهتدياً بوهج تلكم المشاعر ومتأثراً بمفازع المقاتل المضطرمة، ومقوداً بأنباض قيم الحنو والعطف والخير والتعاضد الإنساني. فبرزت، نهاية المطاف، محاكمة ضميرية أدبية، توضح للغرب أوجه تقصيره وتضعه أمام مقتضيات مسؤولياته حيال هذه المقتلة».
هيكل وإسقاطات
اختار الكاتب الإيرلندي مجتمعه مسرحاً لحكاية روايته فأثّثها بشخوصه وأجوائه ومفرداته، إلا أنه طعّم حبكته الإيرلندية/الغربية، برمزيات وإحالات واستعارات لمّاحة تحيلنا إلى ما يعتمل من قهر وعذاب وخراب في مجتمعات الشرق ونظيراتها المبتلية بالمآسي والويلات والحروب والنكبات، فجعلها روح العمل وما يسكن قالبه ويصمم ثيماته وأفكاره، ويقود مسارات حياة ومنقلبات ومنعطفات بطلته «إيليش».

وراح يحكي لقارئه في محطات ارتحالات روائية ماتعة سلسلة استعار معها أبجديات وألسنة ثقافة مجتمعه وقمصان فكره، فصول مهالك أزمة المجتمع السوري ومحارق الحرب فيه ومآلاتها، ومن ثم اشتغل على تشويق هذا القارئ وشدّه إلى أعماق السرد بتأجيج تلهفه لتتبع أحوال ومصائر بطلة العمل وأفراد عائلتها، والتفكّر بما حلّ بهم جميعاً من مصائب وخراب ومفاجآت. فأية أسباب قادته نحو هذي الخيارات والدروب.. وما دوافعه في أن يُلبس سرديته الشرقية ثوباً غربياً.. وماذا عن مرماه الرئيس في تلك المعامع والتجارب والمقاربات؟

«تعمدتُ بناء مسار وهيكل (أغنية النبي) على هذي الشاكلة لأخاطب أبناء مجتمعاتنا الغربية بمضمون حكائي يلامس عقولهم وحيواتهم المعيشة، فأضمن بذا أن تصل رسالتي بدقائقها كاملة، وأصيب هدفي المروم. هكذا تجدني حرصتُ على تزخيم وتغميس خيوط نسيجها بأبعاد وتأويلات تُلمِّح بإسقاطاتها إلى المقتلة التي ألمّت بالمجتمع السوري، وتسافر بالقارئ إلى محطات اختبار عصف مصائب هؤلاء الناس وجرعات آلامهم. ولم يفتني أن أوظّف في تينك المسارين، الارتحال والتخييل من جهة.. وفعل التجسيد من جهة أخرى، عناصر جذب مكثفة.

لا أنني، بالطبع، بقيتُ حريصاً على أن أمسك بقياد الروي ليستمر متموضعاً في مسرحه الغربي ولبوسه الإيرلندي، فيواصل استحضار ثقافات أفراد هذه المجتمعات وطرق مجريات يومياتهم، غاية أن أضمن ثبات انجذابهم إلى حبائل الحكاية، فآخذ بأيديهم ليطلوا من نوافذ السرد على كثير وعظيم المخاطر المقبلة الخافية التي تنتظرهم، وليعوا الحقائق الخافية، ويدركوا ضرورات التمسك بالتآزر الإنساني ومساعدة وغوث المألومين واللاجئين. بذا صُغتُ وولّفتُ حبكة «الأغنية»، وأنا مدفوع بالواجب الإنساني النبيل والمسؤولية الأدبية وبالرغبة العارمة لدكِّ هياكل الصلف والصمت عن الحق، لتنبلج لمّاحة حافلة بالجراءة والإدهاش، بينما تفضح الظلم وتجلو الظلام وتهجو الجور والتخلي.. وتتخلّق صفحات كلماتها سيول إدانات ومساءلات أخلاقية للغرب».

لقاء لا فراق
لم يمضِ القرن التاسع عشر إلا وخريطة صراع الحضارات والشقاق والفرقة بينها، خاصة بين الشرق والغرب، ارتسمت وتبدت بهيئات جديدة يقودها التوحش، جراء تأجيج نيرانها وتصميم خرائطها بهدي محاور قولات وتنظيرات مفكرين وأدباء، أوروبيين، عديدين، انبرت عقولهم وأقلامهم لخدمة مشروعات توسّعية وأطماع سياسية محددة، من بينهم الكاتب البريطاني، روديارد كبلنغ، صاحب المقولة الشهيرة: «الشرق شرق والغرب غرب، ولن يلتقيا أبداً».

فهل ما ذهب إليه حقيقي بالفعل...؟ أيُمكن أن هذه الخلاصة توضح أسباب ومنابت حالة اللامبالاة والنأي بالنفس، السلبية، التي تتبناها مجتمعات الغرب، حالياً، إزاء الشرق وقضاياه، والتي دانها بول لينش في روايته وسماها ضمن الحوار «الصمت المريب»؟

«ليس صحيحاً مطلقاً هذا الزعم. إننا محكومون بالانفتاح والتضافر والتكاتف والتواصل. فالإنسانية تجمعنا وروح التواد والرحمة هي ما يجب أن توجهنا وتلهمنا في أي مكان أو اتجاه كنا في العالم، في الشرق أو في الغرب.. في الشمال أو في الجنوب. من المُخزي أن تعيش مجتمعاتنا في عزلة ولا روابط بينها أو تفاعل وانسجام. إن مصلحة البشرية ومصائرها واحدة، وأية نيران تندلع في مكان ما، لن توفر أحداً، بل ستطال الجميع.

لا مفر لنا إذاً من الوقفة الحرة مع إخواننا المألومين، من أي لون أو عرق أو دينٍ كانوا. ولا جدال في أننا، نحن المثقفين، نتحمل كامل المسؤولية عن تعزيز هذه المشاعر، وتحتّم علينا مهامنا وواجباتنا أن نضيء مشاعل الحق والعدل والخير والجمال لتنير أبهاء الأرض، وتحوك أثواب ائتلاف وتلاقي الحضارات، وتعزز بنيان تطور البشرية، وتمهد دروب نجاتها وخلاصها من الاحتراب والعذابات».

أجنحة الخيال
لا مخالب للأدب، لكنه قوي فياض بمنائر الإيجابية وطاقات الإشعاع والخصب، بفضل ما يعتمل فيه من جرعات تشويق ونبل غايات وأسحار أخيلة طافحة قيماً ومحبةً وانتصاراً للضعفاء والمكلومين. ذاك هو يقين بول لينش المؤمن، على الإطلاق، بسلطان ومضاء واقتدار صنوف الفنون، من رواية وشعر ومسرح وموسيقى...، في إيقاظ عيون الجمال في دواخلنا، وتضميد جراح الإنسانية، وتشييد أعمدة تناغمها وتحابها، في كل حين:
«نعم، إن الأدب أمضى سلاح في نصرة الحق ونشر الخير والجمال. إنه مستطيع، بأجنحة التخييل وبخطابه المفعم أصالة وحكمة وسماحة، إصلاح مواضع الخلل والخراب في عالمنا، وتصويب الأخطاء وتحويل فوهات الحقد رياضاً وعمائر مسكونة رحمة وبشراً وتفاؤلاً وجوداً.

إن شموس الأدب تُنبِت في حقلات نفوسنا زروع التعاطف، تحفزنا لنتقمص ونشعر ما يعيشه الآخرون من محنٍ، في أية بقعة من المسكونة هم. ونحن نستعير أجنحته، وننغمس في سكبات روائعه، سنعي أكناه مشكلات هؤلاء، ونعرف أهمية احترام الخصوصيات والهويات المغايرة. ووسط أضيائه بمقدورنا أن نعيد تكوين وقولبة مفاهيمنا ومواقفنا لتكون مبنية على أسس رزينة خيّرة. إنه، في الجوهر، مُشيّد الجسور بين الثقافات، والبئر التي ترتوي منها جذوات الأفكار الجميلة وعناقيد المحبة.

بهذا يجدر أن نهتدي ونقتدي، فليس أخلق وأجدر من الأدب والثقافة عامة في تعبيد دروب لقاء وتواصل مجتمعات عالمنا في عصر تنهشه المصالح وتأكله الفرقة وأرياح الشرذمة والتشتيت. وجديرة الإشارة ههنا، إلى ما تبينته من تجسيدات بنّاءة فاعلة للأدب والثقافة في المضمار، ضمن مجتمع دبي في دولة الإمارات العربية المتحدة، التي زرتها قبل أشهر في إطار مشاركتي بفعاليات مهرجان طيران الإمارات للآداب بدورته الـ16. إن مثل تلكم المناخات الأدبية الفكرية الوثابة المشهودة في مدينة دبي النابضة بمعايير التنوع الثقافي، لهي أمل البشرية وما يمكنها التعويل عليه لتنير مشاعل الإخاء والطمأنينة والوئام في أرجائها ومسالكها شتى».


أورويل «1984»؟
ملامح حبور تلوّنها مشاعر النجاح والفخر والامتنان، ارتسمت على محيّا الأديب الإيرلندي، حين أنبأته تلهف الوسط الثقافي العربي لمرأى روايته مترجمة إلى اللغة العربية، في القريب العاجل. إذ أعرب عن تقديره هذا الاحتفاء بـ«أغنيته»، وأردف جملة إيضاحات بشأن تساؤلات سيقت في هذي المحطة من الحوار:

«أسعدني جداً ما سمعته عن الأصداء الجميلة لروايتي في العالم العربي، وعن رغبة المثقفين العرب.. وكذا القراء عامة، في أن تترجم إلى اللغة العربية قريباً. إنه لأمر مفرح يجعلني أعزز ثقتي بجوهرية الأدوار السحرية للأدب.

وأما بشأن التساؤلات حول إذا ما ابتغيتُ منها أن تكون رائعة العصر التي تحل في موضع رواية جورج أورويل «1984»، فأنا لم أفكر بالأمر على الإطلاق. أعتقد أن مسألة تصنيفها وفرزها ومقارنتها ليست من شأني ولا أستطيع أن أحكُم وأجزم بخصوصها، بل الأمر متروك للنقاد وللقراء. فأنا دبجتُ العمل مدفوعاً ومقوداً بأحاسيسي الإنسانية وبمسؤولياتي الإبداعية، وليس من اعتبارات أو عوامل أخرى سوى ذاك جعلتني أنكب على إنجازه.. ولم أفكر أو أحدد له مسبقاً، أية اعتبارات في القبيل».