في عالم مليء بالتحديات والصراعات الداخلية، أضاءت المسرحية الشبابية الكوميدية «جيران القمر» للكاتب والمخرج عبد الله المهيري، سماء مهرجان دبي لمسرح الشباب في دورته الـ15، التي تختتم اليوم، برؤية جديدة في المحتوى وتقنيات وفنون العرض، ما أضفى بهاءً خاصاً على مضمونها، حيث إنها تحمل في طياتها قضايا جوهرية تمس حياة الشباب وتناقش تقلبات النفس البشرية في مواجهة الواقع. فمن خلال سرد درامي وإيقاع مسرحي مميز، تأخذنا المسرحية، والتي هي من إنتاج مسرح دبي الوطني، في رحلة استكشاف الذات والبحث عن الأمل (بعيداً عن اجتياح هلوسات للشخصية المحورية قد تصعب مقاومتها، تبعث على الوهن وتثير الأوجاع الدفينة).

مجتمع التحديات

تدور أحداث المسرحية حول شاب في مقتبل العمر قام بدوره الممثل ياسين الدليمي، الذي يواجه رياح التغريب العتية، روحاً وفكراً، وسط مجتمع صاخب الأزمات والتفاعلات، حيث تتصادم طموحاته وأحلامه مع قسوة الواقع. وهو ما دفع إلى خروج ذات هذا الشاب المسلوبة في رحلة البحث عن حياة مختلفة، لكنه يقع في فخ «جيران القمر» من رفقاء السوء الذين يقودونه إلى عوالم سلبية، منها الإدمان. وتتوالى الأحداث بأسلوب كوميدي ساخر، حيث يجد الشاب نفسه محاصراً بالضغوط المجتمعية والعائلية.

فقدان التواصل

تبدأ المسرحية بظهور شخصيات متعددة، منها «الأم»، الممثلة أمل حسين، التي توبخه باستمرار، و«الأب» العليل والمريض بالشلل الرعاش، إذ قام بدوره الممثل علي حسين الذي يعبر عن حزنه بلغة الإشارة. وتتجلى أزمة فقدان التواصل الأسري والدعم المعنوي في ظل عدم قدرته على الحصول على وظيفة تناسب قدراته، مما يزيد من حدة الصراع الداخلي لديه. وفي وسط هذا الصراع، تأتي شخصية «هالوس» وأدت دورها الممثلة الموهوبة خوله عبد السلام كرمز للإغواء والضياع، وكذلك النفس الأمارة بِالسُّوء، والتي طالما تحرض ذاته المحطمة للخضوع للأمر وغض النظر عن تحكيم صوت العقل للوصول إلى بر الأمان.

وفي مشهد آخر يقابل الشاب حبيبته التي تخبره أنها ستتزوج شخصاً آخر، مما يزيد من شعوره بالانكسار والعزلة. وتتجسد الأفكار السوداء في رأسه مجسدة في شخصيات تحيط به، توضح مدى الضغوط النفسية التي يعاني منها، مثل نظرة العائلة وفقدان وظيفة وخسارة الحب، وفي لحظة حاسمة، تظهر شخصية «هالوس»، التي تمثل الإغراء والضياع، وتحاول إقناع الشاب بالاستسلام للواقع السلبي والانغماس في الإدمان كحل للهروب من مشاكله. وتقدم هالوس مونولوجاً شعرياً تحث فيه الشاب على التحليق بعيداً عن الواقع المؤلم، لكنها تحذره من السقوط في يد الإغراء.

يتحول العمل الذي مر بالعديد من المحطات في حياة الشاب إلى سباق سيارات صاخب، حيث يجد الشاب نفسه وسط حشد من المشجعين، ويُطلب منه اختيار فريق لتشجيعه. ويرمز هذا السباق إلى الصراعات الداخلية والخارجية التي يواجهها الشاب، وضرورة اتخاذ موقف في الحياة. يرفض الشاب الانحياز لأي فريق، مما يعكس تردده في اتخاذ قرارات حاسمة، ويستمر التوتر والصراع الداخلي لديه عندما يُعرض عليه حضور عرض أزياء. ويشعر الشاب بالإحباط من السطحية والاهتمام بالمظاهر، مما يبرز عدم رضاه عن حياته الحالية وعدم قدرته على الانسجام مع العالم من حوله.

ويتساءل عن جدوى الاختيارات والانقسامات التي يفرضها المجتمع عليه. وتنتهي المسرحية برسالة أمل، بوفاة الشاب دون أن يدرك أن الحياة مليئة بالخيارات، وأن لكل خطأ طريقاً للعودة. تبرز «جيران القمر» أهمية الدعم العائلي والمجتمعي في تجاوز الأزمات، مؤكدة أن الأمل سيبقى نابضاً ما دامت هناك نبضات في القلب.

المسكوت عنه

الجدير بالذكر أن الكاتب والمخرج عبد الله المهيري من خلال نص متواني الإيقاع وسياق درامي؛ أثار الكثير من القضايا النفسية وتبعاتها، والتي تشكل اليوم علامة فارقة في تحديد مصير وقرارات جيل الشباب والمسكوت عنها في كثير من الأحيان، مثل: فقدان الشغف، والصدمات النفسية، والتحديات التي يواجهها في الانتقال من مرحلة المراهقة إلى سن الرشد.

وبالنسبة لهذه المسرحية، ورغم جديتها، فهي تُقدم بأسلوب كوميدي يخفف من الرسائل الثقيلة ويجعلها أكثر تقبلاً من الجمهور، عبر لغة حوارية سلسة، تجذب المشاهد وتجعله متفاعلاً مع الأحداث. وتُظهر الشخصيات عمقاً وتنوعاً، مما يعكس الواقع المعقد الذي يعيشه الشباب اليوم. ويُحسن المهيري استخدام عناصر المسرح من إضاءة وموسيقى لتعزيز المشاهد الدرامية وإيصال الرسائل بوضوح، وهي إحدى النقاط القوية في العمل، مما يجعل المسرحية، ليست فقط وسيلة للتسلية، بل أيضاً فرصة للتأمل والتفكير في قضايا حياتية مهمة. وتتجلى هذه القدرة في المشاهد التي تجمع بين السباق وعرض الأزياء، واستعراض عوالم ملأى بالتناقض في الحياة، نتبين فيها السطحية من جهة، والعمق، في المقابل.