على مدار العام الماضي، شهدت منطقة الشرق الأوسط تصعيداً غير مسبوق، بدءاً من أكتوبر 2023 مع الحرب في غزة، وهي الحرب التي لم تكن مجرد حلقة من حلقات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي المعتادة، بل مثلت نقطة تحول جوهرية في استراتيجيات إدارة التصعيد بين خصوم إقليميين، الأمر الذي من شأنه إعادة رسم معالم العلاقات والتحالفات في المنطقة، وبما يهدد بـ «سيناريوهات مُربكة» للجميع.

ما يميز حرب غزة في هذا السياق، ليس فقط عنف المواجهات والضربات الإسرائيلية، بل أيضاً التبدلات الكبيرة في استراتيجيات التصعيد بين القوى الإقليمية.

فالحرب الأخيرة شكلت جزءاً من ديناميات إقليمية معقدة، تشمل أطرافاً متعددة، ما أدى إلى تصعيدات غير مسبوقة منذ عقود.

الهجمات غير المسبوقة، التي شنتها إسرائيل على لبنان أخيراً، تُظهر بوضوح أن الصراع لم يعد محصوراً في أُطره التصعيدية التقليدية.

البحر الأحمر

ولا يمكن الحديث عن التحولات الإقليمية، دون الإشارة إلى التوترات المتصاعدة في البحر الأحمر، وما يشهده هذا الممر الاستراتيجي من تصعيد، في ما يتعلق بالهجمات المتكررة على السفن التجارية، وبما يهدد بتحول البحر الأحمر إلى مسرح جديد للصراع الإقليمي والدولي، خاصة أن هذه المنطقة تمثل شرياناً حيوياً للتجارة العالمية.

الحرب في غزة، كشفت عن ترابط الأزمات في المنطقة، فالهجمات على السفن ليست مجرد عمليات منفصلة، بل تعكس كذلك تصاعداً في «حرب الوكلاء»، التي تشهدها المنطقة، حيث لا تُشن الحروب المباشرة بين الدول الكبرى، بل تتم إدارة الصراعات عبر الفاعلين غير الدوليين المدعومين من هذه القوى.

كذلك لا يمكن فهم ديناميات التصعيد في منطقة الشرق الأوسط، بمعزل عن التحولات في التحالفات الإقليمية. فالحرب في غزة، وما أعقبها من تصعيدات في لبنان والبحر الأحمر، وتوترات هنا وهناك، تؤكد أن الخريطة الجيوسياسية متشابكة ومترابطة.

ومع هذه التصعيدات المُزلزلة في المنطقة، يوشك كابوس اتساع دائرة الحرب لحرب أشمل في الشرق الأوسط، أن يتحول إلى حقيقة واقعة.. بينما السؤال هو إلى أي مدى قد تنتشر هذه الحرب، قبل أن يؤدي شعور جميع الأطراف بالإنهاك، وكذا الجهود المتعثرة التي يبذلها الدبلوماسيون الخارجيون إلى وقف القتال؟.

تحولات «إدارة الصراع»

الأستاذ بقسم السياسة الخارجية والأمن العالمي في كلية الخدمة الدولية بالجامعة الأمريكية، بواز أتزيلي، يقول في حديثه مع «البيان»، إنه بالنسبة لإسرائيل، ولسنوات عديدة (في ظل حكم بنيامين نتنياهو بشكل أساسي)، كانت «إدارة الصراع» هي الإطار الفكري المتبع، إذ لم يكن نتنياهو مهتماً بحل الصراع، وبالتالي، فضل «إدارته» في مواجهة «حماس» من خلال الاشتباكات العرضية، بدلاً من محاولة التفاوض مع عناصر أكثر اعتدالاً. نفس الشيء بالنسبة لـ«حماس»، التي فضلت اندلاع العنف بشكل دوري، لمحاولة حله بجدية.

ويضيف: «لا يزال نتنياهو لا يريد الدخول في أي مفاوضات، من أجل حل طويل الأجل، واستمرار الحرب في غزة يناسبه جيداً. ومع ذلك، أعتقد بأن أية حكومة إسرائيلية أخرى، إذا سقط نتنياهو، ستتخذ مساراً مختلفاً».

ومن شأن الصراع، بتداعياته الحالية، أن يشكل مستقبل المنطقة، كما يقول الأستاذ بقسم السياسة الخارجية والأمن العالمي في كلية الخدمة الدولية بالجامعة الأمريكية، غير أن السؤال هو: «إلى أي اتجاه سيكون ذلك؟». ويعتقد أتزيلي أنه مع حكومة نتنياهو المتطرفة الحالية، ورفض «حماس» تقديم تنازلات، يبدو المستقبل قاتماً.

يبدو الأمر وكأنه حرب لا نهاية لها، ودمار مستمر. ولكن مع الحكومات الجديدة الأكثر رؤية (وواقعية في نفس الوقت)، قد يبدو الأمر مختلفاً. فالحروب الرهيبة، إما أن تجلب حرباً أكثر فظاعة، أو تعمل كنداء إيقاظ يبدأ عملية الشفاء والمصالحة. والقيادة مهمة للغاية للمسار إلى الأمام.

ما الذي يحمله المستقبل القريب؟

تشير تقديرات مختلفة، إلى أن التصعيد مرشح للاستمرار في المستقبل القريب، إذ لا يبدو أن هناك رغبة حقيقية من الأطراف المتصارعة في التهدئة. لكن، في المقابل، فإن الإرهاق الاقتصادي والعسكري الذي يعانيه عديد من الدول، قد يدفعها في النهاية إلى البحث عن حلول دبلوماسية، لتجنب المزيد من الفوضى.

أحد السيناريوهات المحتملة، هو أن تشهد المنطقة محاولات جدية لإعادة ضبط التحالفات، وتغيير استراتيجيات التصعيد، حيث تُدرك الدول الإقليمية أن استمرار التوترات دون حلول واقعية، سيُؤدي في النهاية إلى خسارة الجميع.

من واشنطن، يقول بروفيسور العلاقات الدولية في كلية هاميلتون، آلان كفروني، في تصريحات خاصة لـ «البيان»، إنه على الرغم من «أهوال التوغل الإسرائيلي في غزة» منذ السابع من أكتوبر 2023، فقد سعى الخصوم الإقليميون إلى تجنب التصعيد، وقد قيد «حزب الله» اللبناني هجماته على إسرائيل في الشمال، مستهدفاً المناطق العسكرية، وليس المدنية، وقيد استخدام الأسلحة الموجهة بدقة (..).

من جانبها، أدركت إسرائيل حدود قدراتها، ولم تكن راغبة في المخاطرة بحرب على جبهتين، بينما جيشها مثقل بالضغوط، وبالتالي، حدت حينها من استخدامها للصواريخ بعيدة المدى والدقيقة، رداً على ذلك. وقد حددت أطراف إقليمية بعناية ردها على وقائع وهجمات مختلفة (..)، بما في ذلك عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» إسماعيل هنية.

وفيما بدأت إسرائيل في التصعيد ضد «حزب الله» على نحوٍ واسع، يقول كفروني: «لم يتضح بعد ما العواقب الإقليمية الأوسع نطاقاً المترتبة على هجمات إسرائيل على «حزب الله»، والتي لم يسبق لها مثيل منذ عام 2006»، مشدداً على أن خطر التصعيد ماثل دوماً، على الرغم من وجود علامات على أن جميع الأطراف تدرك المخاطر (..).

أما نوايا إسرائيل، فهي أقل تأكيداً. ففي حين أضعفت الهجمات «حزب الله» إلى حد كبير، وأعلن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن المزيد من التعبئة لدعم «هجوم بري على لبنان»، فإن الجيش الإسرائيلي منهك، والمجتمع الإسرائيلي حذر من حرب على جبهتين، بحسب بروفيسور العلاقات الدولية في كلية هاميلتون.

أما عن موقف الولايات المتحدة من التصعيد الراهن، فيرى كفروني أنه «من المؤكد أن الرئيس الأمريكي جو بايدن، أيد وقدم الدعم الكامل للهجمات الإسرائيلية على «حزب الله»، بما في ذلك المزيد من إمدادات الأسلحة، وإرسال قوات إضافية - وإن لم يتم تحديد عددها - إلى المنطقة. ومع ذلك، فإن إدارة بايدن لن ترغب في حرب إقليمية أوسع نطاقًاً.

وتشير الضربات الإسرائيلية الأخيرة على الضاحية الجنوبية لبيروت، واستمرار الحرب في غزة، ومع تعهد رئيس الوزراء الإسرائيلي أمام الأمم المتحدة، بمواصلة الهجمات، إلى تبدد الآمال في التوصل لوقف إطلاق نار، كان من شأنه أن يقلص من المخاوف المرتبطة باندلاع حرب إقليمية شاملة.

كابوس الحرب الشاملة!

«تعكس التطورات الخطيرة الأخيرة، التي شملت إسرائيل ولبنان، تصميم نتنياهو على البقاء في السلطة، وإذا أضفنا إلى هذا؛ التطورات في روسيا وأوكرانيا والانتخابات الأمريكية التي تقترب بسرعة، فإن التهديد للسلام الإقليمي والعالمي عميق»، بحسب الأستاذ بقسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة جنوب كاليفورنيا، جوناثان أرونسون، خلال حديثه مع «البيان».

وبينما تتلاشى آمال التوصل لاتفاقات حاسمة، يعتقد أرونسون بأنه مع أن المخاطر كثيرة على ذلك النحو، إلا أنه «إذا تم قبول الهدنة على الحدود الشمالية لإسرائيل، فقد نمر بنهاية عام 2024 دون انفجار كبير».

ويشار في هذا السياق، إلى تصريحات بايدن- الذي وجّه أخيراً البنتاغون لتقييم وتعديل وضع القوات الأمريكية في المنطقة، حسب ما يقتضي الأمر- خلال حديثه قبيل أيام مع شبكة «إيه بي سي»، والتي لم يستبعد خلالها سيناريو «الحرب الشاملة» في منطقة الشرق الأوسط - في ضوء تصاعد وتيرة التصعيد على النحو الراهن- غير أنه في الوقت نفسه، قال «أعتقد بأنه لا يزال هناك إمكان للتوصل إلى اتفاق يمكنه أن يبدل في شكل أساسي المنطقة برمتها».

ويُراهن الأكاديمي الأمريكي المتخصص في الشؤون الدولية، على دور عربي قوي وفاعل من أجل المساهمة في درء تلك المخاطر، لكنّ الوضع على الأرض لا ينبئ عملياً بذلك، لا سيما مع تصاعد مخاوف تصدير الصراع لساحات أوسع، تقود لحرب شاملة، يدرك جميع الأطراف مدى خطورتها، وهو خطر يتزايد بشكل حاد، بينما المنطقة صارت على شفا السيناريو الأسود، مع كابوس الحرب الأوسع.