بدأ المشهد الداخلي في لبنان يشهد متغيرات كبيرة، لجهة الاستعدادات والتحركات التصاعدية المتصلة بمساريْن بالغي الأهمية المصيرية، والمتزامنين تقريباً، وهما استكمال الإجراءات العسكرية والأمنية الملقاة على عاتق لبنان الرسمي وحزب الله، تنفيذاً لالتزامات اتفاق وقف النار مع إسرائيل، وقطع الطريق عليها في المضي في اختراقاتها لهذا الاتفاق، والتحفز لجلسة 9 يناير المقبل، لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، وعدم الإطاحة بهذا الموعد، بعدما ظهرت معطيات مثيرة للتشكيك في حتمية انتخاب رئيس في هذا الموعد.. ذلك أنه، ومنذ إعلان بدء وقف إطلاق النار، في 27 نوفمبر الماضي، وغداة تأكيد رئيس مجلس النواب، نبيه بري، التزامه بالدعوة إلى انتخاب رئيس، وتحديد 9 يناير المقبل موعداً لها، دخلت الأوساط السياسية في مناخ مختلف له حساباته الخاصة المعقدة.

جنوباً، وفي انتظار الاجتماع الأول للجنة مراقبة اتفاق وقف إطلاق النار على جبهة لبنان، خلال الساعات المقبلة، بقيت إسرائيل ممعنة في التعامل مع المنطقة الجنوبية، لا سيما المحاذية للخط الحدودي، كمساحة مستباحة لها، إنْ بالقصف المدفعي المتواصل على العديد من البلدات، أو بالطلعات المتواصلة لطيرانها الحربي والمسير في الأجواء الجنوبية، مع تنفيذ غارات مسيرة في بعض البلدات، أو بالتوغلات المتتالية في عمق القرى، والتدمير الشامل لمنازلها بالنسف والتجريف، أو بمنع أهالي المناطق الحدودية من العودة إلى بلداتهم، وإصدار البيانات التحذيرية لهم بشكل متواصل، منذ الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار.

وفي موازاة التحذيرات التي تتوالى من اتجاهات مختلفة من أن يؤدي تمادي إسرائيل في خروقاتها إلى انهيار اتفاق وقف إطلاق النار، لوحظ الحضور الأمريكي المكثف على هذا الخط، في محاولات متتالية مع إسرائيل لوقف خروقاتها، وتأكيد التزامها بالاتفاق. وكذلك، من باب الطمأنة على صلابة الاتفاق، على ما أكد البنتاغون، منذ أيام، وكرر ذلك وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، الذي قال خلال اجتماع حلف شمالي الأطلسي، أمس الأول: إنّ اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله صامد.

استحقاق رئاسي

تزامناً، عكست معالم الحركة السياسية في كواليس المسار الرئاسي تصاعداً كبيراً لحمى الاتصالات، والتي بدا العامل الأكثر إثارة للانشداد فيها، هو السعي المتعدد الاتجاهات إلى انطلاق مسار مشاورات، حتى بين القوى المتعارضة والمتخاصمة، سعياً إلى تقارب في طرح أسماء مرشحين توافقيين، ينتخب أحدهم بأكثرية كبيرة، وإلا الاتفاق على أن تكون الجلسة حاسمة، بحيث تتحول إلى جلسة بدورات مفتوحة، ولو أدت إلى انتخاب رئيس بالأكثرية العادية.

ومع ذلك، فإن مطلعين على معالم الإطلالة على مرحلة تقريرية وحاسمة للاستحقاق الرئاسي، بعد طول تعطيل لانتخاب الرئيس، يلفتون إلى تعقيدات كبيرة، تقف دون الإفراط في التفاؤل، أو إطلاق توقعات استباقية، إذْ إن حسابات ما بعد الحرب، تداخلت بقوة مع ملف طرح أسماء المرشحين الجديين، وربما تكون الأمور أمام خلط واسع جداً للأوراق والأسماء، خصوصاً بعدما ثبت أن الدول المعنية برعاية اتفاق وقف النار، كما الدول المعنية بالوضع اللبناني، بدأت تتداول بجدية حاسمة أسماء مرشحين وتجري استقصاءات حيالهم، تمهيداً لبلورة مواقفها الوشيكة من الاستحقاق. علماً بأن بورصة الأسماء تبدو شديدة التنوّع والتناقض، وحتى الضبابية، في ظل الكلام حول مواصفات الرئيس، ودخول مرادفات جديدة على القاموس السياسي، ذلك أن فريقاً يحذر من رئيس تهريبة، وفريق ثانٍ يطالب برئيس يكرس نتائج الحرب ويطبق اتفاقها. كما أن فريقاً يعتبر أن الزمن هو الأمثل لرئيس توافقي، وآخر يتمسك بأسماء من مراحل سابقة.. ولكل فريق قراءته وأسبابه الموجبة للذهاب نحو بروفايل رئيس يناسب طرحه.

تنقية مسار

وثمة سؤال كبير يتردد في الأوساط السياسية المعنية بانتخابات الرئاسة، مفاده: هل أن هذه المكونات السياسية مستعدة لأن تنقي المسار الرئاسي من الشروط والتعقيدات، ولأن تراجع حساباتها، وتسلم بالحاجة التي زادها الهجوم الإسرائيلي على لبنان إلحاحاً وضرورة، وتعدل توجهاتها الرئاسية وخياراتها الثابتة عليها منذ بدء الشغور الرئاسي قبل عامين وشهرين؟ وبالتالي، هل تتلقف مبادرة بري بتحديد موعد الجلسة الانتخابية، والتفاعل الإيجابي معها، بما يجعلها جلسة مثمرة بالفعل؟. ثمة كلام عن أن الطريق الرئاسي سالك وآمن، وأن المكونات السياسية فككت تعقيداتها، وعدلت خياراتها واشتراطاتها السابقة، التي ساهمت في تعطيل الاستحقاق، وإطالة عمر الفراغ في رئاسة الجمهورية. ما يعني تبعاً لذلك، أن الانقسام الرئاسي ما زال قائماً، حتى يثبت العكس، فيما ردم هذا الانقسام وسد فجواته الواسعة، معلقان على ما ستفضي إليه النقاشات بين أطراف الخلاف خلال الأيام المقبلة.