بعد عام على حرب غزة يجد لبنان نفسه في بداية نفق أسود معتم، لا أفق واضحاً إطلاقاً لنهايته، فيما جنوبه وبقاعه والضاحية الجنوبية لعاصمته ترزح تحت أعتى آلة حربية حديثة، فهو يدفع ثمن الصراع بين إسرائيل و«حزب الله»، حيث تسعى إسرائيل إلى تعميم نموذج غزة في تدمير قرى جنوب لبنان، وتهجير سكانها، أما ما هو واضح حتى الآن، وبحسب مصادر سياسية متابعة، فإن الإسرائيليين وضعوا برنامجاً عسكرياً محدداً لمسار عملياتهم، يتدرجون في توسيعها وتصعيدها، حيث انتقلت إلى مرحلة استهداف نقاط ضمن المناطق السكنية، في إطار الضغط على «حزب الله»، من خلال إلحاق الأذى ببيئته الحاضنة، وإن كان بات أصلاً في قلب المعركة مع إسرائيل، منذ استهدافها منصات صواريخ «حزب الله»، ثم قياداته، ثم تهجير بيئته الحاضنة، وصولاً إلى الإعلان عن التحضير لمرحلة الدخول مجدداً إلى جنوب لبنان.
بالأمس القريب، وتحديداً قبل 17 سبتمبر الفائت، بدا اللبنانيون كأنهم محاصرون، لا هم في سلم ولا في حرب.. لا سبب للنزول إلى الملاجئ، ولا طمأنينة في غد طبيعي.. لا سبب للتشرد، ولا أمان في البقاء.
انفجارات
وبين غمضة عين وانتباهتها دوت الانفجارات المتتالية وتطاير لهيب الكارثة، وضاعت معالم الأمكنة المرتبطة بوجود «حزب الله»، جنوباً وبقاعاً، وفي الضاحية الجنوبية لبيروت ساحات حرب مشرعة على كل الاحتمالات المرتبطة بما سمّي «حرب الإسناد»، فيما «التحفت» الأبنية بالسواد والعتمة والحيرة.
وفي الأرض المحروقة، ومن خلف الغبار، الذي لم ينجلِ بعد، لا تزال صورة بيروت من صورة ضاحيتها الجنوبية حتى إشعار آخر، علامة على أن كارثة كبرى وقعت هنا، تماماً كما كانت هناك «غزة».. حرب في منطقة محاصرة كلياً، بلا أي مخرج، بدأت بوادره عند طريق المصنع، الذي استهدف بغارة فصلت لبنان عن سوريا، وقطعت المعبر البري صلة الوصل بين البلدين.
انعدام الحياة
وما بين مضامين هذه المشاهد فإن ثمة إجماعاً على أن ما جرى ويجري أشبه بـ«خيال علمي»، فيه خرق استخباري وأمني رفيع، إنْ على المستوى التقني، أو على مستوى بشري لا يزال غير معروف، وذلك في عملية، أسمتها إسرائيل «سِهام الشمال»، وطاولت جسم «حزب الله»، عمودياً وأفقياً، فيما يبقى الأساس في توقيتها، بعد موجة من التهديدات المتزايدة والتصريحات حول الاستعداد لشن حرب على لبنان أو توسيع العمليات العسكرية.
أما ما تجتمع عليه القراءات المتعددة والمتناقضة فهو أن أفق الحرب «مفتوح» لفترة طويلة، وبالتأكيد لما بعد الانتخابات الأمريكية في نوفمبر المقبل، مع توقع شبه أكيد بزيادة وتيرة العمليات العسكرية وتوسيعها.
حرب من نوع جديد لم يعرفه اللبنانيون من قبل بهذه الشدة والثقل. الرعب من الموت هنا ليس لثوانٍ، ولا هو موت فجائي «مريح»، ولا هو معارك وقصف وغارات يحيل من يعنيهم الأمر من اللبنانيين إلى «مكافحين» للبقاء أو هاربين للنجاة، بل رعب صامت ومديد وشبحي يستحوذ على المستقبل بأسره.
محطات مفصلية
في 17 سبتمبر الفائت تدحرجت الأوضاع الأمنية بين إسرائيل و«حزب الله» بشكل دراماتيكي، إذ أعلنت تل أبيب عن إحباط محاولة من الحزب لاغتيال رئيس الأركان السابق، أفيف كوخافي، من خلال عبوة ناسفة، فجاء الرد أسرع من المتوقع بعملية «غريبة»، شكلت الاختراق الأمني الأوسع على الإطلاق لـ«حزب الله»، وتمثلت بسلسلة انفجارات استهدفت مئات العناصر من الميليشيا في مختلف المناطق اللبنانية، لا سيما في الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب والبقاع، عبر تفجير أجهزة اللاسلكي، التي يحملونها «البايجر»، من خلال بطاريات «الليثيوم» التي تحويها.
وغداة الخرق في أجهزة الـ«بايجر» التابعة لـ«حزب الله»، ومن ثم انفجار أجهزة «الإيكوم» اللاسلكية وبطاريات الطاقة الشمسية، في 17 و18 سبتمبر الفائت، ما أودى بحياة 37 شخصاً، وأصاب نحو 3000 آخرين بجروح، ارتفع منسوب الكلام عن كون القراءات التقليدية للحروب لم تعد تنفع لتقدير ومعرفة ما الذي يجري على امتداد لبنان، حيث كان المشهد أبلغ من كل كلام، من الأمواج البشرية التي ودعت من قضوا إلى تلك التي أحاطت المستشفيات وجرحاها.
ضربة استخباراتية
ومن بوابة اليومين المفصليين في تاريخ لبنان، واللذين شهدا أكبر ضربة استخباراتية- أمنية وجهت إلى «حزب الله»، في عملية اعتبر مسؤولون أمنيون أنها غير مسبوقة في تاريخ الحروب، ووسط السباق المحموم، حينها، بين نوايا إسرائيل التصعيدية ضد «حزب الله»، والمساعي الأمريكية لضبط اندفاعة بنيامين نتنياهو، لوحت الحكومة الإسرائيلية بتوسيع الحرب مع الميليشيا، في حال عدم إعادة مستوطني الشمال إلى مناطقهم، في ظل رفض «حزب الله» المتواصل لوقف الحرب التي يخوضها، بحجة عدم إيقاف النار في غزة، وعليه أنذرت كل المؤشرات بالخطر الداهم على الحدود الجنوبية، وخصوصاً أن الإسرائيليين رفعوا سقف التهديد بتغيير الوضع في الشمال، وهو ما عبر عنه بنيامين نتنياهو خلال لقائه المبعوث الرئاسي الأمريكي، آموس هوكشتاين، قائلاً: «سنفعل ما يلزم لحماية أمننا وإعادة السكان، ولا يمكن إعادتهم من دون عمل أمني جذري»، في حين نقل عن هوكشتاين قوله لمسؤول لبناني اتصل به، ما مفاده أن «الأمور تتجه نحو الجنون»، ذلك أن الأسلوب الذي اعتمدته إسرائيل، في عمليتها المسماة إعلامياً بـ«تحت الحزام»، مكنها من تحويل لبنان كاملاً إلى «ساحة حرب» لا ترى.
حرب من دون رصاصة واحدة، وخرق استخباراتي من الطراز الأول، لم يكن أتباع الحزب يتخيلون، حتى وفي أسوأ كوابيسهم وأكثرها إيلاماً، أنهم قد يشهدون الحرب في بيوتهم وشوارعهم، تدنو منهم بلا أي سابق إنذار.
ماذا بعد؟
ووسط الدمار الكبير، والغبار الكثيف الذي غطى المشهد وحجب الرؤية لما هو آتٍ، والنوافذ والأبواب التي شرعت على عواصف واحتمالات كثيرة، ونظرات احتوت الكثير من القلق والترقب، وطرحت تساؤلات عن «ماذا بعد؟»، وفيما كانت عمليات رفع الأنقاض مستمرة في «الضاحية»، بحثاً عن أمل، أو عن يد مرفوعة تشير إلى الحياة من تحت الركام، إذْ تسبب العدوان بدمار كبير في المباني التي سقطت أرضاً، وحصدت أرواح مدنيين (31 قتيلاً، بينهم 3 أطفال و7 نساء، بالإضافة إلى 68 جريحاً، عدا عن وجود أشلاء لم يتم التعرف عليها)، أقفل المشهد في 27 سبتمبر على الحدث الأضخم والأخطر في تحولات لبنان والمنطقة، والمتمثل بانقضاض إسرائيل على «حزب الله»، وأمينه العام حسن نصر الله.
كان ثمة إجماع على دخول الصراع بين إسرائيل و«حزب الله» مرحلة انقلابية، في خلل غير مسبوق في ميزان القوى، سيرتب بطبيعة الحال تداعيات، قد لا يكون يشبهها أي حدث سابق في تاريخ الصراع والحروب مع إسرائيل، ذلك أن عملية اغتيال «نصرالله» اتخذت، وفق إجماع مصادر سياسية متعددة، بعداً غير مسبوق في تحويل وجهة الصراع إلى محفز لإسرائيل لمزيد من الانقضاض على مناطق نفوذ الحزب.
سيناريوهان
ثمة سيناريوهان يتردد الكلام عنهما: الأول، أن تقدم إسرائيل على توسيع جغرافيا الاستهدافات ونطاقها على لبنان، أما السيناريو الثاني فهو أن يتطور مسار العملية الإسرائيلية، ويكون القرار بأن لبنان قد تحول إلى جبهة أساسية ومفتوحة، وينخرط في عملية عسكرية واسعة، بما فيها اجتياح بري لتطبيق القرار 1701، من خلال إنشاء منطقة عازلة، بناء على مقترحات القيادة الشمالية في الجيش الإسرائيلي. والتمهيد لذلك يكون بزيادة منسوب الضربات والتدمير الممنهج لشريط واسع من قرى الجنوب، مع الإشارة إلى أن الضربات التي تكثفت في الأيام القليلة الماضية تشبه إلى حد بعيد الاستراتيجية ذاتها، التي اعتمدها الإسرائيلي في قطاع غزة قبل عملية الاجتياح البري وخلالها. وما بين مضامين الوقائع والاحتمالات، وتحت وطأة حرب معلنة، فإن الذين يهددهم الموت على امتداد مساحة لبنان يبدون وكأنهم سرعان ما «تكيّفوا» مع شروط البقاء على قيد الحياة، فيتجاوزون شلل الرعب والخوف إلى مرحلة الصراع وتحدي الموت: البحث عن أماكن آمنة، تدبير المؤن، التعاون والتكافل بين الأفراد والجماعات، جمع المعلومات وتقصيها، معرفة طرق الهروب، الاحتفاظ بالممتلكات الثمينة والأوراق الشخصية .