لم تخالف صورة الدمار الذي بدا عليه قطاع غزة، في الذكرى الأولى للحرب، الإشارات التي ارتسمت على الواقع المعيشي في مواجهة الموجة الأقسى من العاصفة، إذ طغى زنّار الجوع وهو يلف أجساد الغزيين على المشهد. عام صاخب، والنازحون في قطاع غزة مأخوذون بمنازلة بدت أصعب من مواجهة القذائف والقتل والدمار، ومدججة بأبعاد أغرقتهم في لعبة حرق الأعصاب، إذ باتت يومياتهم موزعة ما بين تقصي أخبار المساعدات الإنسانية القادمة، ورصد مشاهد الجوع لأطفالهم، والتي غدت عناوين قهر إضافية، ولا تنتهي بتحذيرات من آتٍ عظيم، عنوانه المجاعة الحتمية.
عام جديد من الحرب، التي تمددت تداعياتها على المشهد الغزي كبقعة زيت، في حقبة هي الأصعب في تاريخ الفلسطينيين، عاش الغزيون أياماً عصيبة، لم تسعفهم في اتضاح صورة الحل، لتتراكم مؤشرات المعاناة، على مختلف أوجه حياتهم، إذ على رقعة الشطرنج في غزة، لم يعد في أيديهم أية أحجار يمكن الدفع بها في مواجهة المجاعة التي وقعوا في شركها، وحتى نداءات ترشيد الاستهلاك والتقشف لم تجدِ نفعاً، أمام «ترشيد» دخول المساعدات الإغاثية، ما جعل خلطة المعاناة كارثية، وثلاثية الأبعاد: قتل، ونزوح، وجوع، تحت سماء واحدة.
وأيقظت الذكرى الأولى للحرب، صفحات قاتمة وذكريات مؤلمة في ذاكرة الغزيين، وما جرّته عليهم الحرب من ويلات ابتلعت الأرض ومن عليها، لكن يبقى الجوع الفصل الأصعب الذي ينخر عظامهم، إذ إن أشد المتشائمين لم يكن يتوقع أن يحرم من رغيف الخبز، بعد أن نفد الدقيق، ودمرت المخابز، واشتعلت الأسعار وتضخمت، كما لم يخطر ببالهم أن يأكلوا أوراق الشجر والأعلاف (طعام الحيوانات) لسد الرمق.
المجاعة تضرب
وقال المنسق الإعلامي للهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني، رمزي أبو العون، في تصريح لـ «البيان»، إن الجيش الإسرائيلي لم يكتفِ بإدامة تدفق شلال الدم في قطاع غزة، من خلال الصواريخ والقذائف المتفجرة، التي أخذ يلقيها على رؤوس المدنيين العزل في بيوتهم أو خيامهم، بل اجترح وسيلة أشد خطورة، بمنع وصول المعونات الغذائية للسكان، في حرب تجويع لا تقل خطورة ولا وحشية عن الحرب العسكرية.
يقول أبو العون: «منذ الأيام الأولى للحرب، هيمنت الأوضاع الإنسانية الكارثية على قطاع غزة، ومع تصاعد وتيرتها، بدأ المواطنون يتضورون جوعاً، نتيجة للمجاعة التي ضربت قطاع غزة من شماله إلى جنوبه، ما ترتب على ذلك انتشار واسع للأمراض، نتيجة نقص المواد الغذائية، لتبدأ المجاعة تحصد أوراح الأطفال».
ويضيف: تسبب الجوع بتهجير سكان شمالي غزة، وتزايدت حالات الوفاة بسبب الجوع، خصوصاً في صفوف الأطفال، الذين عانوا من الجفاف وسوء التغذية، وحتى في المستشفيات، فقد نفدت محاليل التغذية، ما نتج عنه وفاة أطفال.
بينما كانت المواطنة آية حسنين النازحة من غزة والمقيمة في أحد مراكز الإيواء في رفح، شاهدة على وفاة قريبتها الطفلة مي، نتيجة لمعاناة والدتها من جفاف حاد، ولم يكن بمقدورها إرضاع طفلتها، بينما عجز والدها عن توفير الحليب الصناعي لها، لتفارق الحياة بسبب الجوع.
توضح حسنين: «أجبرنا على أكل الحشائش وأعلاف الحيوانات.. الناس هنا يتضورون جوعاً، والحالة يرثى لها، والنازحون يعيشون في حالة من القلق على مصير أقاربهم وأطفالهم، وهناك مشاهد مفزعة لأطفال لم يعودوا قادرين على الوقوف أو المشي، وباتوا يواجهون خطر الموت جوعاً».
وحسب وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة، فهناك ما يزيد على 700 ألف طفل، و60 ألف امرأة حامل، و350 ألف مريض مزمن، معرضون بشكل مباشر للموت نتيجة للمجاعة المستمرة.
وكان الناطق باسم وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، أشرف القدرة، حذر من أن الجفاف وسوء التغذية، سيحصدان أرواح الآلاف من الأطفال والحوامل، إذا استمرت المجاعة، مبيناً أن 15 طفلاً قضوا في ظروف مماثلة لحادثة وفاة الطفلة أبو زيادة، خلال أسبوع فقط.
فيما نقل مواطنون شهادات صادمة من شمالي غزة، حول سيدات لم يعدن قادرات على إرضاع أطفالهن، وأطفال في حالات موت سريري، نتيجة لصعوبة توفير البدائل من حليب الأطفال، أو الوجبات المصنعة المخصصة لهم، الأمر الذي أكده نائب مدير برنامج الغذاء العالمي، كارل سكاو، مبيناً أن قطاع غزة يشهد حالات تعد الأسوأ في العالم على مستوى سوء تغذية الأطفال.
تحذيرات تتوالى
وتراجعت إمدادات الغذاء إلى قطاع غزة، بعد فرض إسرائيل قاعدة جمركية جديدة على المساعدات الإغاثية، مع تقليص عمليات تسليم المعونات للمؤسسات التي تعمل على إيصالها للسكان، بما في ذلك الشاحنات التابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، التي أظهرت بياناتها أن شحنات الأغذية والمساعدات إلى قطاع غزة، تراجعت إلى أدنى مستوياتها منذ 12 شهراً، هي عمر الحرب.
وتحل الذكرى الأولى للحرب على غزة، على وقع صرخة أممية، من توالي زحف المجاعة الكامنة في شمالي غزة إلى وسط وجنوبي القطاع، بسبب استمرار إسرائيل في إغلاق معبري رفح وكرم أبو سالم، الأمر الذي يراه النازحون حكماً بالإبادة الجماعية عليهم.
عام العسرة
ويستقبل الفلسطينيون في قطاع غزة الذكرى الأولى للحرب، بشح كبير في المواد الغذائية، لدرجة وصفه مواطنون بأنه غير مسبوق، ورغم اجتهادهم لتوفير الحد الأدنى من احتياجاتهم الأساسية، إلا أن مساعيهم فشلت أمام الأسواق التي بدت خالية من معظم المواد الاستهلاكية.
ويقول مواطنون إن انقطاع الخبز ومختلف المواد الغذائية، فرض عليهم البحث عن بدائل، فما يتم إدخاله مجرد مواد معلبة، سرعان ما تنفد، لكن حتى البدائل أصبحت شبه معدومة، بفعل الحصار المفروض، مع يعني دخولهم من جديد في أوضاع كارثية ومأساوية، وفق قولهم.
وثمة من المواطنين من وصفوا عام الحرب بأنه «عام العسرة»، إذ إن المجاعة تفشت نتيجة لحرب ضروس، أكلت الأخضر واليابس، لدرجة أن آخر الحلول التي كانوا يفكرون بها استنفدت، ولم يبقَ أمامهم سوى شبح الجوع.
ورغم مرور عام على الحرب، إلا أن عبارة «مُتنا من الجوع»، ما زالت الصرخة الأكثر شيوعاً في قطاع غزة، وبات أكثر من مليوني فلسطيني، يواجهون خطر الموت بالجوع، هذا إن نجوا من القصف المتواصل على مدار الساعة.