تبدو غزة في حال تشبه مدناً يابانية إبان الحرب العالمية الثانية، حيث لم تبق الحرب الضروس حجراً على حجر، النار تشتعل في الخيام البدائية، إثر قصفها بالقذائف الحارقة، والنازحون يتراكضون على غير هدى، ولا يعرفون أين يذهبون، بينما يمضي الجيش الإسرائيلي في تنفيذ «خطة الجنرلات» التي تقضي بتفريغ شمال القطاع وتحويله إلى منطقة عسكرية.
المحاصرون يتضورون جوعاً، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر. عداد الضحايا يرتفع بسرعة جنونية ومعه موجات جديدة من النازحين من جحيم الحرب.
ليست هذه المرة الأولى التي تستهدف فيها مراكز إيواء النازحين، إذ داهمتها الغارات الإسرائيلية غير مرة، وسقط في ساحاتها العشرات من النازحين، لكنها ما زالت تفرد ذراعيها لاستقبال حشود أخرى من الفارين من الأحزمة النارية.
وفي «أشباه الخيام» المقامة في العراء، وبعد كل يوم تشرق فيه الشمس، يشعر النازحون بأنهم ولدوا من جديد، لكنهم يشعرون بأنهم يشكلون عبئاً إضافياً على الخيام المتهالكة ومراكز الإيواء المتصدعة، كما يقول أحدهم. رائحة الموت تستوطن المكان، دمار في كل حي، ودماء في كل شارع، ودموع في كل خيمة، وما زال شمال قطاع غزة يرزح تحت حصار مطبق، لتكتمل خلطة المعاناة: القتل والجوع والحصار.
شوارع الموت
وفق شهود عيان، خلفت العملية العسكرية المتصاعدة في شمال غزة، المئات من الضحايا وأضعافهم من الجرحى، فضلاً عن عشرات المفقودين تحت الركام، الذين لا يعرف مصيرهم.
يقول سليمان شهاب (30 عاماً)، إن بعض الفلسطينيين فقدوا تحت ركام المنازل التي تعرضت للقصف العنيف، بينما اختفت آثار آخرين في المناطق التي اجتاحها الجيش الإسرائيلي، إذ فقد الاتصال بهم، وما زال مصيرهم مجهولاً.
ويضيف لـ«البيان»: «تتعدد الاحتمالات ما بين اعتقالهم أو قتلهم، أو أن يكونوا قضوا جوعاً، حيث يمنع الجيش الإسرائيلي وصول الطعام والماء للمحاصرين، وحتى فرق الإنقاذ لا تتمكن من الوصول إلى المناطق المحاصرة».
ويواصل: بعض العائلات انتقلت إلى منازل الجيران، من خلال «فتحات» أحدثوها في الجدران المتلاصقة «من بيت إلى بيت».
شهادات صادمة
وينقل مدحت مراد (26 عاماً)، الموجود في مدينة رام الله بالضفة الغربية، روايات مروعة عن أقاربه المحاصرين في مخيم جباليا، حيث يروي عن انتشار جثث الضحايا في الشوارع، فضلاً عن جرحى ما زالوا على قيد الحياة تحت ركام المنازل.
يقول لـ«البيان»: «الأهالي الذين تمكنوا من الوصول إلى غزة، نقلوا لنا شهادات صادمة، وجرائم مروعة، من بينها إعدامات ميدانية للمارة، وقصف عنيف يستهدف مربعات سكنية مكتظة، وحالات موت بالجوع».
وبعد فشله في دفع سكان شمال غزة إلى النزوح القسري جنوباً، ورفض الأهالي أوامره بالإخلاء، بدأ الجيش الإسرائيلي بترحيلهم، بعد اقتحام منازلهم، أو مراكز الإيواء التي لجأوا إليها، حيث يقوم بتجميعهم في أماكن عامة، ويجبرهم تحت تهديد السلاح، على التحرك باتجاه الجنوب.
يقول شريف العامودي (52 عاماً)، إن الجيش الإسرائيلي قام بإعدام العشرات من الشبان والرجال بدم بارد، إثر رفضهم النزوح القسري، مبيناً أن صمود الأهالي دفع بالجنود لتعميق الضغط، وإذا استمر هذا الأمر سوف يلجأ للترحيل الإجباري، وفق «خطة الجنرالات».