ضاقت مساحة شمالي غزة بالفارين من الحرب، وبات الناس يفترشون الأرصفة طلباً للأمان المفقود في منازلهم أو «خيام نومهم» الأكثر عرضة للاستهداف بالقصف، وغدت الشوارع وساحات المدارس بالنسبة إليهم الأرض والسقف، وبدت الحياة حرجة، وكل مظاهر الحياة جفت منابعها. عداد الضحايا يرتفع بسرعة جنونية، وموجات جديدة من النازحين الفارين من جحيم الحرب ونيران المقاتلات الحربية الإسرائيلية.

تخطت الحرب حاجز الـ388 يوماً، بعد أن ظن كثيرون بأنها موجة تصعيد عابرة، وسرعان ما تنتهي كسابقاتها، فإذا بها تنفجر حرباً ولا كل الحروب، تغيرت فيها معالم غزة، فيما مضى عداد الضحايا مسجلاً أرقاماً مرعبة، وسط تدافع المؤشرات المقلقة، بأن قطار الحرب بات من الصعب إيقافه.

في شمالي غزة، يستهدف الجيش الإسرائيلي الإنسان والعمران، إذ تصاعدت المجازر في مخيم جباليا وبلدتي بيت لاهيا وبيت حانون، بعض هذه المجازر عرفت وكشف عن فصولها وتفاصيلها، فيما ما زالت أخرى مجهولة، بعد قطع كل خدمات الاتصال، وحسب شهادات من أبناء المنطقة، يجري قصف المنازل المأهولة بقسوة، ويقضي مدنيون تحت الركام، من دون أن تصل إليهم الأطقم الطبية.

نازحون تمكنوا بصعوبة من مغادرة مخيم جباليا، قالوا لـ«البيان» خلال اتصالات انقطعت غير مرة، إن المجازر المروعة داخل المخيم لا يستوعبها عقل بشر، فالجنود الإسرائيليون يضعون الأهالي بين خيارين لا ثالث لهما: النزوح أو القتل، ومن يختار النزوح يتعرض للإعدام الميداني بعد الخروج من بيته.

جثث وجرحى

يقول المسن علي الحوراني: «هناك جثث ما زالت منتشرة في الشوارع، وجرحى تحت الركام لا أحد يستطيع الوصول إليهم. لقد عاصرت العديد من الحروب مع إسرائيل، لكن ما يجري حالياً في شمالي غزة، غير مسبوق في تاريخ الشعب الفلسطيني، الموت يجوب البيوت والخيام والشوارع، ويخيم على الأرجاء».

وأضاف: «نقضي ليلنا في ظلام دامس، ونعاني الجوع والعطش.. ليلنا بلا نوم ونهارنا يفتقد لأبسط مقومات الحياة، والجنود يتعمدون إرهاب النساء والأطفال، ومن تكتب له النجاة من الرصاص والقذائف، يواجه الموت جوعاً».

بينما تروي سلطانة حمودة (52 عاماً): «يطلب منا الجيش الإسرائيلي النزوح باتجاه وادي غزة، ويأمرنا بالتحرك بسرعة، ولكن الدمار الذي يملأ الشوارع يعوق حركتنا، فيصب غضبه علينا، ويبدأ بإطلاق النار نحونا».

تقول: «هذه المشاهد لم نكن نراها إلا في أفلام الرعب، والجنود الإسرائيليون يتعمدون جرف مراكز الإيواء، وحرق ما تبقى من مواد غذائية في مراكز أخرى، وتدمير خطوط المياه، لجعل الحياة هنا مستحيلة، ودفعنا إلى الرحيل».

وتضيف: «سمعنا عن اتصالات سياسية تجري لوقف الحرب، وتوقعنا أن تخف حدة القصف، ويرفع الحصار عن شمالي غزة، لكنا فوجئنا بغارات عنيفة كأننا في الأيام الأولى للحرب.. كامل قطاع غزة تحول إلى مناطق حمراء، ونعيش أحوالاً صعبة لا يعلم بها إلا الله».