هدأت العاصفة وانتهى كل شيء.. دونالد ترامب رئيساً وسيداً للبيت الأبيض لأربع سنوات قادمات.. كامالا هاريس تقر بهزيمتها وتهنئ غريمها، والاقتصاد وليس غيره مثّل العامل الأبرز إن لم يكن الأوحد في ترجيح خيارات الأمريكيين.

ما كافأ الناخبون ترامب قدر ما عاقبوا منافسته على ما يعتبرونه خذلان إدارة لم تعر اهتماماً لشواغلهم أو تضمد جراحاً غائرة خلّفها اقتصاد متداعٍ أثر على مختلف الطبقات، فيما كان محدودو الدخل الأكثر غضباً وألماً وصراخاً، لم يفوتوا الفرصة التي جاءت على طبق من ذهب للانتقام من الديمقراطيين حد التشفي في صناديق الرئاسة والمجلسين معاً.

لقد جندل ترامب هاريس في حلبة الاقتصاد بالضربة القاضية.. إذ أظهر رؤية واضحة ترتكز على تحفيزه عبر خفض الضرائب وتشجيع الصناعات الوطنية وفرض التعريفات الجمركية على الواردات الأجنبية.. فيما لا تمتلك منافسته رؤى مماثلة في حقل طالما سعت وفي كل إطلالتها إلى تجنبه والهرب منه إلى ميادين أخرى لا تطرب زامر الأمريكيين.

لم يشفع لهاريس تعويل قام على غير ساقين في ترجيح معسكر النساء وجموع الشباب والمهاجرين واللاتينيين لكفتها.. خذلنها بنات جلدتها وعاقبتها فئات أخرى رأت في ترامب طوق نجاة على علاته.. خيب الجميع ظنها في اتخاذهم رافعة سياسية إلى الفوز في ليلة مظلمة عزت فيها الروافع.

استمال ترامب بأسلوبه المعتاد «غير المعتاد» ولايات التأرجح التي استقام عودها حتى أصبحت «حمراء قُحّة» ولعب على أوتار طالما خبر جدواها وعظيم تأثيرها على الناخبين. بدا ترامب أكثر نضحاً هذه المرة منها في فترة رئاسته الأولى بدعوة الأمريكيين إلى الوحدة ووضع الانقسامات التي سادت السنوات الماضية خلف الظهور.

لقد أخفق الديمقراطيون كما العادة في تهدئة مخاوف لم يأخذوها على محمل الجد على رأسها حدود مهملة يعبرها مئات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين بما يزيد معدلات الجريمة ويهدد أمن البلاد.. وهو شاغل حساس عزف المرشح الجمهوري على أوتاره حتى أخرج من الألحان ما أشجاه.

تركت الهزيمة المذلة الحزب الديمقراطي في مفترق طرق وأدخلته نفقاً مظلماً يهدد وجوده بعد أن فقد كل شيء.. بما يحتم على قادته ورموزه ومنظريه برأي كثيرين ابتكار أسلوب تعاطٍ مختلف والنهوض مرة أخرى من تحت الركام في تعافٍ لن يكون سريعاً.

يبدو العالم على أعتاب مرحلة جديدة وتقلبات ومطبات تتفاوت درجات شدتها بين الدول.. والملفات الساخنة التي تحتشد بها الجنبات وما أكثرها.

تبدو الحرب الروسية الأوكرانية أكثر الملفات تأثراً بفوز ترامب.. وإن تباين موقف متقاتليها إلى طرفي نقيض.. ففيما مثل وصول ترامب إلى البيت الأبيض أسوأ خيارات كييف.. مثّل في الوقت ذاته خبراً ساراً لموسكو وإن كانت العاصمتان لا تستطيعان البوح بمكنونيهما بما تقتضي الدبلوماسية وأعرافها والمصالح ومقتضياتها.

يمثل وصول ترامب إلى السلطة برأي الكثيرين أولى خطوات إنهاء حرب أوكرانيا بناء على ما صرح به قبلاً بأن هذه الحرب لم تكن لتشتعل لو كان رئيساً وبأن وقفها لن يستغرق عنده سوى ساعات!

ولا يختلف موقف الرئيس الجديد من الحرب في الشرق الأوسط عنه في حرب أوكرانيا يدلل على ذلك تصريحات متفرقة له قبيل أشهر عن وقف وشيك للمعاناة والدمار في المنطقة بما يعني وحال أبر بوعده أن حربي غزة ولبنان قد بدأتا مرحلة هبوط تدريجي لا مفر منه.

ويبدو من شبه المؤكد أن علاقة واشنطن مع الحلفاء في حلف شمال الأطلسي على أعتاب مرحلة جديدة وأن شهر العسل الذي دام أربع سنوات على وشك الانقضاء ليس بالانسحاب قطعاً بل بما يسميه الإنصاف عبر إجبار دول الحلف لأن تدفع وعدم ترك بلاده تسدد الفاتورة الباهظة وحدها في تغيير لا لبس فيه لقواعد اللعبة. أما قصة ترامب والصين فتلك حكاية أخرى يرجح أن تشهد تفاعلات كثيرة مع توليه منصبه في يناير المقبل.