شهدت ماليزيا طفرة قوية في مجال التنمية وقد تحققت تلك الطفرة بفضل الدور التخطيطي القوى الذي قامت به الدولة منذ عام 1971, وهي السنة التي بدأت فيها (السياسة الاقتصادية الجديدة) . وقد تضمنت تلك السياسة خطة اقتصادية لمدة عشرين عاما. وقد سعت الخطة الى احداث تغيير اقتصادي بنيوي مع رفع المستوى الاقتصادي للمالاى بشكل تدريجي, بدون اي تأثير سلبى على المستوى الاقتصادي للعناصر الصينية المسيطرة اقتصاديا. وقد جاءت تلك السياسة كرد فعل للاضطرابات العرقية التي حدثت عام 1969 والتي كشفت عن تدنى المستوى الاقتصادي للمالاى بالمقارنة بغيرهم. فقد تبين ان 63% من ملكية الأسهم في ماليزيا تتركز في أيدي الاجانب مقابل 34% في يد عناصر غير المالايا. وقد سعت الخطة ليس فقط الى زيادة نصيب المالايا الى 30% من الأسهم بل ايضا الى زيادة نصيب الصينيين الى 40%. وقد نجحت الخطة في تخفيض نسبة امتلاك الاجانب من الاسهم الى 33%, وزيادة نسبة المالايا الى 20%, وغير المالايا الى 47%. كذلك نجحت الخطة في خفض نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر من 30% الى 17% عام 1991 وبذلك نجحت الخطة ليس فقط في رفع المستوى الاقتصادي ولكن ايضا في تحقيق قدر من التوازن الاقتصادي بين الأعراق المختلفة. ورغم ذلك, فان التنمية الماليزية مازالت تواجه مشكلات ضخمة, لعل اهم تلك المشكلات هي مشكلة الاعتماد على صادرات المواد الاولية, وقد ادى هبوط اسعار المواد الاولية في منتصف الثمانينات الى ركود اقتصادي في ماليزيا, كما ادى تقلبات البورصات العالمية في عام 1997 الى هبوط سعر العملة الماليزية ودخول ماليزيا مرحلة ركود اقتصادي. وفي الوقت ذاته استطاعت ماليزيا ان تحقق قدرا معقولا من التطور الديمقراطي بالمقارنة بالدول المجاورة. ويتضح ذلك في وجود دستور مكتوب وتعددية حزبية قوامها احزاب الائتلاف الحاكم بقيادة التنظيم القومي ومجموعة من احزاب المعارضة, مع وجود انتخابات تعددية تنافسية سواء على المستوى الاتحادي او المحلي يجد خلالها الائتلاف الحاكم منافسة حقيقية, وان كانت تلك المنافسة لم تنجح في اقصائه عن الحكم, ومع وجود قدر من حرية الصحافة, واستقلال القضاء وحقوق الانسان الا ان الدولة تتدخل احيانا في تلك الجوانب. فبموجب تشريع صادر في عام 1987 فان من حق الحكومة منع اصدار اي صحف قد تؤدى الى ازعاج الرأى العام, كما انه بموجب قانون الأمن الداخلي يجوز اعتقال الاشخاص لمدد طويلة في حالة الاشتباه بانهم يتصرفون بطريقة تضر امن الدولة, كما ان الدولة تدخلت لتبديل قانون القضاء بما يضمن سيطرتها عليهم, وقد تم الغاء حق المحكمة العليا في المراجعة القضائية بعد ان اعلنت تلك المحكمة عدم شرعية انتخاب التنظيم القومي وخلاصة القول ان ماليزيا قد حققت قدرا معقولا من التنمية الاقتصادية والسياسية. فإلى اي حد كان هذا القدر يمثل انعكاسا للمفاهيم الاسلامية؟ ان الاجابة على هذا السؤال تتطلب اولا ان ننظر الى واقع المجتمع الماليزي والدور التقليدي الذي اضطلع به الاسلام في هذا المجتمع قبل بدء عصر التنمية الراهنة, وتطور التطبيق الماليزي للاسلام وذلك كمقدمة لفهم طبيعة التصور الماليزي للدور الاسلامي في التنمية واشكال تطبيق هذا التصور. الدور التقليدي للإسلام في المجتمع الماليزي يتألف المجتمع الماليزي من ثلاث مجموعات عرقية اساسية هي المالاى (49%), والصينيين (32%), والهنود (9%), بالاضافة الى اعراق اخرى. ويعتبر الاسلام هو ديانة الغالبية الساحقة من المالايا, ويشكل المسلمون الهنود والمالايا حوالي 53% من سكان شبه جزيرة ماليزيا, فاذا اضفنا اليها ولايتى صباح وساراواك فان نسبة المسلمين في ماليزيا كلها تصل الى حوالى 50%, وبذلك فان المسلمين لا يشكلون اغلبية واضحة في ماليزيا. وبالنسبة للمالايا فان الاسلام ليس مجرد ديانة ولكنه كان دائما مكونا محوريا من مكونات اسلوب المالاي في الحياة. كما ان نظام القيم الاجتماعية للمالاى مرتبط ارتباطا وثيقا بالاسلام. فقد خضع المالايا تقليديا لنظام السلاطين المسلمين بما في ذلك فترة الحكم البريطاني كذلك فان السلاطين الماليزيين يضطلعون بدور اساسي في حماية وتطبيق قواعد الشريعة الاسلامية كما ان الدستور الماليزي يعطى للسلطان في كل ولاية حق التدخل لحماية ومراعاة تطبيق المبادئ الشرعية الاسلامية. كما ان الدستور يحمى المسلمين من التبشير بديانة اخرى, وتفرض بعض الولايات غرامات مالية على عدم اداء الشعائر الاسلامية. وقد شهد مجتمع المالايا منذ بداية القرن العشرين نهضة فكرية اسلامية تمثلت في مناظرات فكرية بين الاصلاحيين والتقليديين المسلمين. كما حافظ المالايا دائما على علاقات وثيقة مع العالم الاسلامي من خلال البعثات الدراسية. وقد ساعدت تلك البعثات على استمرار حيوية وعى مجتمع المالايا بالاسلام رغم تدفق اعداد ضخمة من الصينيين والهنود الى ارض المالايا منذ بداية القرن العشرين, وهو الامر الذي هدد بتحولهم الى اقلية في بلادهم من ناحية وزيادة تمسكهم بالاسلام من ناحية اخرى كرد على التدفق العرقي لغير المسلمين. ومما ساعد على عمق تمسك المالايا بالقيم الاسلامية وجود مجموعات عرقية اخرى غير مسلمة تكاد تشكل نصف السكان. ومن ثم شكل الاسلام بالنسبة للمالايا اساس الهوية القومية واداة التمسك الاجتماعي في مواجهة الآخرين. ورغم شبه التطابق بين خطوط التقسيم العرقي والتقسيم الديني في ماليزيا فانه لا يوجد تطابق بين خطوط السيطرة السياسية وخطوط السيطرة الاقتصادية. فرغم ان المالايا يمسكون بناصية السلطة السياسية متمثلة في حكم ملك ماليزيا وسلاطين الولايات, وهيمنة التنظيم القومى المالايا المتحد (الحزب السياسي للمالايا), فان الصينيين تمتعوا تقليديا بالهيمنة الاقتصادية. وقد ادت حدة التفاوت بين السلطة السياسية والقوة الاقتصادية في ماليزيا الى نشوب اضطرابات عرقية عام 1969 قادها المالايا احتجاجاً على الهيمنة الاقتصادية للصينيين. لقد مثلت تلك الاضطرابات احتجاجا عنيفا على تدنى الوضع الاقتصادي للمالايا. ورغم ان الحكومة الماليزية قد اضطرت الى اعلان الاحكام العرفية لاحتواء هذه الاضطرابات, الا انها اتجهت بعد ذلك الى اتباع استراتيجية جديدة تدور حول اعطاء مزيد من الفرص الاقتصادية للمالايا, وتبنى توجهات اسلامية تتفق مع التيارات الفكرية للمالايا. وقد اسميت هذه الاستراتيجية (بالسياسة الاقتصادية الجديدة) وقد امتدت لمدة عشرين عاما وذلك من عام 1971 حتى عام 1990. وفي اطار هذه السياسة زادت الحكومة من معدلات التنمية, ولكنها سعت ايضا الى توظيف عملية وعوائد التنمية لتحسين الوضع الاقتصادي للمالايا واعطائهم مزيد من فرص الترقى في الوظائف الحكومية, واكتساب المهارات المهنية العليا, والدخول في ميدان الانشطة الاقتصادية الخاصة, وذلك دون الاضرار بالعناصر العرقية الأخرى. وقد نجحت تلك السياسة في رفع نصيب المالايا من الناتج القومي من 24% عام 1970 الى 30% عام 1990 والى رفع نسبة المالايا من شريحة المهنيين (اطباء ومهندسين ومحاسبين) من 5% عام 1970 الى 29% عام 1990, هذا في الوقت الذي ظلت فيه نسبة الصينيين من هذه الشريحة ثابتة تقريبا فقد انخفضت من 61% الى 56% فقط. وبعد انتهاء فترة السياسة الاقتصادية الجديدة بدأت حكومة ماليزيا بقيادة محاضر محمد برنامجا جديدا لرفع المستوى الاقتصادي للمالايا. ومن ذلك زيادة نسبة المالايا في الوظائف العامة بحيث يحصلون على 56% من الوظائف الجديدة التي تنشئها الحكومة. وقد رأينا ان الغالبية الساحقة من المالايا من المسلمين. ومن ثم فان استراتيجية تحسين مستواهم الاقتصادي تطلبت تبنى توجهات تتفق والهوية الاسلامية للمالايا, حتى ولو لم تكن متفقة تماما مع فكر النخبة الحاكمة. كذلك فقد بدا ان رفع المستوى الاقتصادي للمالايا انما هو في الواقع رفع للمستوى الاقتصادي للمسلمين على حساب غيرهم. فبينما سمحت الحكومة للمالايا مثلا بانشاء جامعة اسلامية فانها لم تسمح للصينيين بانشاء جامعة صينية وبذلك حدث تداخل قوى بين عملية تقوية قومية المالايا اقتصاديا واجتماعيا وعملية (اسلمة ماليزيا) . من ناحية اخرى فقد واجه النظام السياسي الماليزي معضلة العلاقة بين الدين والدولة ذلك ان التعدد العرقي للمجتمع الماليزي تطلب منذ البداية بناء نظام سياسي يقوم على تعاون بين مختلف الاعراق وعدم قصر المفاهيم السياسية للنظام على المفاهيم الاسلامية. ولهذا فقد استند الاساس السياسي للنظام الماليزي على ائتلاف عريض لمجموعة الأحزاب السياسية التي تمثل مختلف الاعراق, وهو الائتلاف المتمثل في (الجبهة الوطنية) التي يقودها التنظيم القومي المالايا المتحد. وهذا التنظيم يمثل المالايا ويتعاون مع الأحزاب السياسية التي تمثل الصينيين والهنود. بيد ان القرارات الاساسية تتخذ في التنظيم القومى. ويلاحظ ان هذه الجبهة لم تشمل التنظيمات السياسية الاسلامية الداعية الى بناء دولة اسلامية في ماليزيا, كالحزب الاسلامي الماليزي, وذلك باستثناء الفترة من عام 1972 الى عام 1977 وهي الفترة التالية لبدء تطبيق السياسة الاقتصادية الجديدة. ومن ثم فان النظام السياسي الماليزي ارتكز منذ نشأته على القيادة السياسية للمالايا بالتعاون مع الاعراق الاخرى, وهو ما تطلب عدم تبنى شعارات اسلامية للنظام السياسي. بيد ان الضغوط السياسية للمالايا (اضطرابات 1969) دفعت النظام السياسي الى اضافة بعد جديد وهو محاولة الحفاظ على التوازن الاجتماعي والسياسي عن طريق تبنى بعض الشعارات الاسلامية. تطور التطبيق الاسلامي في ماليزيا (1957ــ1980) مر التطبيق الاسلامي في ماليزيا بثلاث مراحل. وتبدأ المرحلة الاولى مع استقلال ماليزيا عام 1957 وتمتد حتى الاضطرابات العرقية عام 1969. اما المرحلة الثانية فقد امتدت طوال السبعينات وحتى عام 1981 حينما تولى محاضر محمد رئاسة الوزراء حيث تبدأ المرحلة الثالثة والراهنة في التطبيق الاسلامي في ماليزيا. فخلال السنوات الاولى لنشأة ماليزيا, وطوال حكم تنكو عبدالرحمن, رئيس وزراء ماليزيا (1975ــ1970), لم يكن الاسلام مطروحا كأساس للتنمية. فقد انتهجت حكومة التنظيم القومي سياسة المصالحة بين الأعراق المختلفة, وعدم رفع اي شعارات اسلامية, اللهم الا اثناء فترة الانتخابات وفي اطار التنافس مع (الحزب الاسلامي لكل المالايا) وذلك لاكتساب تأييد العناصر الاسلامية التقليدية التي كان هذا الحزب يمثل قاعدتها السياسية. ويشير فون در مهدن الى ان حكومة تنكو عبدالرحمن تعمدت اتباع سياسة الغموض ازاء دور الاسلام في التنمية حرصا على اكتساب ولاء مختلف الأعراق. وقد اطاحت الاضطرابات العرقية عام 1969 بتنكو عبدالرحمن وسياسته الغامضة, وخلفه في السلطة تون عبدالرزاق. وقد كانت هذه الاضطرابات كما قدمنا تعبيرا عن مطالب المالايا لتحقيق مكانة اقتصادية افضل في النظام السياسي. وبادر عبدالرزاق ببلورة السياسة الاقتصادية الجديدة الهادفة الى زيادة نصيب المالايا من القوة الاقتصادية والاجتماعية وهو الهدف الذي تحقق جزء كبير منه كما رأينا. لم تكن السياسة الاقتصادية الجديدة مبنية بالضرورة على المفاهيم الاسلامية, ولكنها كانت تسعى اساسا الى زيادة القوة الاقتصادية للمالايا. بيد ان اسلامية المالايا وتصاعد تأثير الحركات الاسلامية في ماليزيا (نتيجة الهزيمة العربية عام 1967) دفع حكومة تون عبدالرزاق الى رفع شعارات اسلامية بشكل بدا متوافقا مع مطالب الحركات الاسلامية. وقد ساعدت السياسة الاقتصادية الجديدة ليس فقط لزيادة القوة الاقتصادية للمالايا, ولكنها مثلت عمليات التحديث التي بدأتها السياسة الاقتصادية الجديدة مجموعة من الأزمات الاجتماعية للمالايا, وكان الاسلام هو الاداة التي لجأت اليها تلك الاجيال لتأكيد هويتها. ولعل هذا يفسر نشأة (حركة الشباب الاسلامي الماليزي) , عام 1971, وهي الحركة التي قادها فيما بعد انور ابراهيم. كذلك فقد دخلت حكومة التنظيم القومي المالاي المتحد في ائتلاف سياسي مع الحزب الاسلامي الماليزي. وهذا الحزب هو حزب اسلامي اصولي يدعو الى بناء دولة اسلامية تقوم على تطبيق مبادئ الشريعة الاسلامية. لقد كان هذا الائتلاف اجراء مصلحيا وظفته حكومة التنظيم القومى لاحتواء الحركات الاسلامية واستخدمه الحزب الاسلامي الماليزي للضغط من اجل مزيد من التطبيق الاسلامي. ففي اطار هذا التحالف ضغط الحزب الاسلامي لاقامة بنك اسلامي وزيادة عدد المدارس الاسلامية وتطبيق بعض المبادئ الشرعية الاسلامية كمنع اعلانات الخمور. وقد نجح الحزب الاسلامي في ذلك الى حد بعيد ولكنه فشل في تحقيق هدفه الاساسي وهو دفع حكومة التنظيم القومي الى تعديل الدستور بما يتفق وتصورات الحزب والدولة الاسلامية. وبعد ان استنفذ الائتلاف اغراضه بالنسبة للتنظيم القومي قام بانهاء الائتلاف والدعوة الى انتخابات عامة عام 1977, وهي الانتخابات التي أدت الى سحق الحزب الاسلامي الماليزي بشكل لم يستطع ان يستعوضه الا ابتداء من عام 1990. ومن ثم بدا ان ائتلاف التنظيم القومي مع الحزب الاسلامي الماليزي كان يهدف الى افقاد الاخير قواعده الشعبية. وفي الوقت ذاته قامت حكومة التنظيم القومي بتطبيق بعض الشعارات الاسلامية كتنظيم (شهر الدعوة) , واستخدام عبارات سياسية في الخطاب السياسي, والاكثار من البرامج الاعلامية الاسلامية, والانخراط في القضايا الاسلامية الدولية, واستضافة المؤتمرات الاسلامية الدولية (كمؤتمر وزراء خارجية دول منظمة المؤتمر الاسلامي الذي انعقد في ماليزيا عام 1976). ولكن حكومة التنظيم القومي لم تتحدث اطلاقا عن بناء دولة اسلامية كما كان الحزب الاسلامي الماليزي يطالب. ومن ثم يمكن القول ان النخبة الماليزية الحاكمة كانت تسعى بالأساس الى التوفيق بين مطالب الأعراق المختلفة طبقا للوزن النسبي لكل منها. وكان طرح الشعارات الاسلامية, والائتلاف قصير الامد مع الحزب الاسلامي الماليزي بمثابة اداة لاستيعاب المطالب السياسية للمالايا. التصور الاسلامي للتنمية في عهد محاضر محمد مثل حكم محاضر محمد منذ عام 1981 نقلة نوعية في قضية العلاقة بين الاسلام والتنمية في ماليزيا. فقبل وصوله الى السلطة كان محاضر محمد أميل الى فكر تنكو عبدالرحمن. فقد كان متأثرا بالنموذج الصيني للعمل المنضبط, وهو النموذج الذي شاع في شرقي آسيا. كان محاضر محمد يفسر التخلف النسبي للمالاي في ضوء خصائصهم العرقية الكامنة. ودعى مسلمى ماليزيا الى تعلم الكفاءة الصينية واعتبر تلك الكفاءة بمثابة النموذج الامثل للمالايا. كانت هذه افكار محاضر محمد عندما اصبح رئيساً لوزراء ماليزيا عام 1981, وقد عبر عن هذه الافكار بعد وصوله الى السلطة مما دعى بعض القيادات الاسلامية الى اتهامه بأنه لا يسعى الى بناء توازن بين المالايا والصينيين, ولكنه يريد تحويل المالايا الى صينيين. ولكن محاضر محمد كان من الذكاء بما أدى به الى استنتاج ان نجاحه في السلطة لا يرتبط فقط بمجرد احداث تنمية, ولكن ايضا بالتواصل مع المالايا والتيارات الاسلامية التي تعبر عنها مما ادى به الى تغيير خطابه السياسي بما يتضمن تأكيدا على العلاقة بين الاسلام والتنمية. وكان من أول تحركاته في هذا الصدد هو استقطاب انور ابراهيم, رئيس حركة الشباب الاسلامي الماليزي آنذاك, الذي ترك قيادة الحركة وانضم الى حكومة التنظيم القومي بزعامة محاضر محمد عام 1982 وقد ادى انضمام انور ابراهيم الى التنظيم القومي الى تقوية الحزب الاسلامي الماليزي بانضمام عناصر من حركة الشباب الى الحزب. ولكن الاهم من ذلك انه ادى ايضا الى بروز وتعميق البعد الاسلامي لتصور حكومة التنظيم القومي لعملية التنمية. فعلى اثر انضمام انور ابراهيم الى الحكومة بدا واضحا انها تتجه نحو بناء تصور جديد للعلاقة بين الاسلام والتنمية في ماليزيا. فما هي عناصر هذا التصور الجديد؟ يمكن القول ان التصور الذي قدمه محاضر وانور يدور حول فكرة محورية مؤداها ان نقطة البدء في عملية التنمية ينبغي ان تكون هي الانطلاق من واقع المجتمع الماليزي مع الانفتاح على كل الافكار والثقافات والسياسات التي يمكن ان تفيد هذا المجتمع. ويعد الاسلام هو (احد مكونات واقع المجتمع الماليزي) , (احد) التيارات التي ينبغي الاستفادة منها في تنمية هذا المجتمع ولكنه بالقطع ليس العنصر الوحيد الذي ينبغي الانطلاق منه لتحقيق التنمية. ولهذا نلاحظ ان حكومة ماليزيا لم تطرح بشكل محدد شعار اسلمة المجتمع الماليزي, او بناء دولة اسلامية في ماليزيا, وان كان محاضر محمد قد استعمل احيانا مصطلح (الحكومة الاسلامية لماليزيا) للاشارة الى حكومته. من ناحية اخرى انطلق فكر قيادة محاضر محمد ـ انور ابراهيم من اثارة السؤالين التقليديين اللذين اثارهما علماء المسلمين منذ منتصف القرن التاسع عشر مع تصاعد التكالب الاستعماري. هذان السؤالان هما ما هي اسباب تخلف المسلمين؟ وكيف يمكن تحقيق تقدم الشعوب الاسلامية؟ اكدت القيادة الماليزية ان تخلف الشعوب الاسلامية نابع من عاملين اولهما قوى الطائفية والقبلية والاستبداد التي تعيش في المجتمعات الاسلامية, وثانيهما الصراعات بين قيادات المسلمين. فالتوعك الذي تعيشه الامة الاسلامية كان نتيجة حتمية لما يقومون به, خاصة قادة الامة, والذين بدلا من تركيزهم على قضايا نهضة الامة الاسلامية غرقوا في مستنقعات التشرذم والحروب والفساد الاداري, كما كان يقول انور ابراهيم. ويضيف ابراهيم في سياق اخر (ان التحدي الذي يواجه الاسلام هو ترويض قوى الطائفية والقبلية التي تعيش بداخله, والتي تشكل مع الاستبداد اكبر المعوقات امام نشأة مجتمع متحضر داخل الامة, ومن ثم فان تخلف المسلمين يعود, في نظر انور ابراهيم الى عوامل داخلية بالاساس. وللتعامل مع تلك العوامل فانه من المهم ان ننطلق من الواقع واحد عناصر هذا الاطلاق هو رفض مفهوم التحديث بالمعنى العلماني الغربي, وبناء نموذج للتنمية يقوم على الاستفادة من المهارات التكنولوجية الغربية مع عدم التضحية بالقيم الثقافية الاسلامية, فاذا استطاعت اسيا ان تتمكن من المهارات الصناعية للغرب, ومع ذلك تحتفظ بقيمها الثقافية, فانها ستكون في موقع يسمح لها ببناء حضارة اعظم من اي حضارة عبر التاريخ. هذا ما قاله محاضر محمد في كتابه صوت اسيا, وهو قول ينطبق على السياق الماليزي. ففي هذا السياق يشكل الاسلام القيمة الثقافية الكبرى. فاذا استطاعت ماليزيا ان توفق بين استيعاب التكنولوجيا الغربية وتطويرها في اطار الاحتفاظ بالقيم الثقافية الاسلامية, فانها تكون قد حققت نموذجا طيبا للتنمية. وفي السياق الماليزي يركز محاضر محمد على ان الاسلام هو اطار مرجعي عام للتنمية, ولكنه لا يقدم نموذجا واحدا لهذه التنمية كما لا يوجد تفسير صحيح واحد للاسلام صالح للتطبيق في كل الاحوال. ويتطلب ذلك ضرورة البحث المستمر عن حلول تتفق مع معطيات الواقع والمقاصد العامة الواردة في الاسلام. ان القرآن شامل في محتواه, وهو قدوتنا في كل الظروف والاحوال, ولكن حين تؤخذ ايات منه بمعزل عن الكل تصبح تعاليم القرآن مشوّهه ومضادة لمقاصد الاسلام العامة, كما يقول محاضر محمد, ان الحلول ينبغي الا تتعارض مع المقاصد العامة للاسلام ولكنها تتلاءم مع معطيات الواقع العالمي والاسلامي. ولعل اول تلك الحلول هو استيعاب التكنولوجيا الحديثة, فقد كان رفض تلك التكنولوجيا لحقبة طويلة في تاريخ المسلمين, كما يقول محاضر محمد احد اسباب تأخرهم فقد منع المسلمون طباعة القرآن بحجة انه يجب ان يكتب فقد بخط اليد, ومنعوا لفترة طويلة استعمال التلفزيون وآلات التصوير وهي كلها سخافات لعبت دورا كبيرا في تأخر المسلمين, ويضيف انور ابراهيم ينبغي على المجتمعات الاسلامية ان تركز اهتمامها على القضايا الاقتصادية, ومن اهم العوامل الاقتصادية التي ثبت دورها في تحقيق ازدهار الشعوب ورخائها تنشيط النمو بتشجيع الاستثمار والعمل التجاري, ووضع سياسات مالية حكيمة. ما هو دور الاسلام في هذا كله؟ يعتقد محاضر انه ينبغي على المسلمين التمسك بالاسلام والنهوض من خلاله. ولكن هذا التمسك ينبغي ان يكون بالأهداف العامة للاسلام, وليس لنموذج معين. ذلك لانه لا يوجد نموذج او تفسير واحد للاسلام صالح للتطبيق في كل الاحوال. ومن ثم فان التمسك بالاسلام يعنى السعى لتحقيق اهدافه من خلال آليات لا تتعارض معه. ويشمل ذلك الاستفادة من القيم الروحية والاخلاقية من الشعوب الاخرى وفي مقدمتها الشعوب الشرق اسيوية ومن اهم تلك القيم اخلاقيات العمل الاسيوية التي تقوم على العمل الجماعي والانضباط الصارم. وبالتالي فان محاضر محمد لا يتحدث عن بناء دولة اسلامية في ماليزيا فهذه الدولة لا تتفق ومعطيات التعدد العرقي والديني في ماليزيا ولكنه يتحدث عن بناء دولة حديثة تحقق الاهداف العامة للاسلام. وتعد هذه احدى نقاط الخلاف الجوهرية بين فكر محاضر محمد من ناحية وفكر الحزب الاسلامي الماليزي الذي يقوم على بناء دولة اسلامية تطبق قواعد الشريعة الاسلامية تطبيقا صارما. ان هذا التصور يراه محاضر محمد طريقا لتدمير المجتمع الماليزي. فالطريق الصحيح للاسلام هو العيش معا بسلام بين شعوب مختلف الديانات, ومعتنقى الديانات الاخرى ليسوا اعداء دائمين للمسلمين كما يتصور بعض المسلمين. فاعتقاد بعض المسلمين مثلا ان اليهود اعداء دائمين هو شيء ضد تعاليم الاسلام. ومن ثم فان الاسلام يمثل في نظر محاضر اطارا عاما وكليا للتنمية, ليس من منطلق البحث في النصوص عن حلول لمشكلات الواقع, او فرض القيم الاسلامية على الآخرين, ولكن من منطلق البحث عن حلول واقعية تتفق مع الاهداف العامة للاسلام وتحققها خاصة ان الاسلام لا يقدم وصفة جاهزة لحل كل مشكلات الواقع عبر كل العصور. ولهذا لم يجد محاضر محمد حرجا في الدعوة الى (الاتجاه شرقا) اي الاستفادة من تجارب الدول الشرق اسيوية كاليابان وكوريا الجنوبية. فهذه التجارب بتركيزها على قيم واخلاقيات العمل الجاد تحقق الاهداف العامة للاسلام. بعبارة اخرى فان القيادة الماليزية تركز على التنمية المتفقة مع الاسلام, اكثر من تركيزها على المفهوم الاسلامي للتنمية. ولهذا نلاحظ ان (رؤية 2020) , التي قدمها محاضر محمد لمستقبل ماليزيا عام 1991 تشير الى بناء الدولة الاسلامية حتى عام 2020 على اسس عصرية, ولا تشير بالتحديد الى الاسلام. كذلك فقد ألقى المندوب السامي لماليزيا في باكستان محاضرة في المعهد الباكستاني للشؤون الدولية في اغسطس عام 1996 عن التنمية الماليزية تناول فيها القوى الدافعة لتلك التنمية ولكنه لم يشر الى وجود بعد اسلامي لتلك التنمية. بيد ان الخطاب السياسي الماليزي عندما يصل الى التطبيق فانه يعطى وزنا اكبر للبعد الاسلامي في التنمية, ومن ذلك انشاء البنك الاسلامي وشركات التأمين الاسلامية وغيرها. كيف نفسر هذا التفاوت؟ ان تفسير هذا التفاوت يكمن في ان القيادة الماليزية تسعى الى التكيف مع التوجهات الاسلامية لدى المالايا والحركات الاسلامية التي تعبر عن فكر بعض عناصرهم. واذا كانت النخبة الماليزية قد تبنت بعض شعارات التيار الاسلامي في اطار عملية التوفيق والموائمة فانها حرصت ان يتم ذلك في اطار سلطة الدولة, والا تكون عملية التوفيق على حساب التيارات العرقية الاخرى. ولهذا فانه عندما زاد نفوذ حركة دار الأرقم في مجال بناء قرى اسلامية مستقلة لابنائها يتم فيها تطبيق مبادئ الدولة الاسلامية بالشكل الذي تتصوره الحركة, قامت حكومة محاضر محمد باستصدار فتوى شرعية بان الحركة تخالف تعاليم الاسلام وحظرت انشطتها وألقت القبض على زعيمها الشيخ الاشعرى محمد, كذلك لم يلجأ محاضر محمد الى الائتلاف مع الحزب الاسلامي الماليزي وحينما وصل هذا الحزب الى السلطة في كيلانتان عام 1990 وحاول اخضاع العناصر غير الاسلامية لأحكام الشريعة تدخلت حكومة محاضر محمد لإجباره على تغيير سياسته كذلك فانه عندما قامت احدى المحاكم في ولاية سيلانجور بمحاولة تطبيق الحد الاسلامي على ثلاث فتيات اشتركن في مسابقة ملكة جمال ماليزيا في يونيو عام 1997, تدخل محاضر محمد لالغاء الحكم وبدأ في حملة لتوحيد القوانين في الولايات بما يتفق مع القانون الاتحادي. ولذلك فقد اتهمه مفتى سيلانجور بالردة. ومن ثم فان الاسلام يشكل احد ابعاد التصور السياسي للدولة والمجتمع لدى النخبة الماليزية الحاكمة, كما ان هذا البعد يتميز بتركيزه على الاهداف العامة والانطلاق من الواقع الماليزي التعددي عرقيا ودينيا والتوفيق بينه وبين الاهداف الاسلامية العامة. التطبيق الاسلامي للتنمية في عهد محاضر محمد يوضح تأمل تجربة التنمية الماليزية خلال العشرين عام الخيرة انها تنطلق من الأسس التقليدية لعمليات التنمية والتحديث. فالاقتصاد الماليزي يقوم على الاسس الاقتصادية والمصرفية التقليدية, ويتعامل مع الاسواق العالمية انطلاقا من القواعد الاقتصادية المتعارف عليها. بيد ان محاضر محمد شرع في زيادة الجرعة الاسلامية في برامج التنمية الماليزية على مستوى الاقتصاد والتعليم والاعلام. فعلى المستوى الاقتصادي تم انشاء العديد من المؤسسات الاقتصادية التنموية واهمها البنك الاسلامي. وقد انشئ هذا البنك عام 1983 بموجب (القانون المصرفي الاسلامي) . وطبقا لنظام هذا البنك فانه يقوم على مبدأ العائد المتغير, كما انه يعتبر ودائع المدخرين قروضا حسنة للبنك لا يتقاضون عنها فوائد ولكن يتقاضون عائدا متغيرا تحدده الحكومة طبقا لموقفها الاقتصادي. وينظم البنك حسابات استثمارية يدفع عليها عوائد يحددها, وتدفع تلك العوائد من خلال عملية المضاربة والمشاركة وتمويل التجارة. وتقوم الحكومة الماليزية بدعم البنك الاسلامي بشكل مباشر في عمليات المضاربة والبيع بالثمن الآجل والاجارة. ولما كان هذا البنك هو جزء من منظومة مجموعة البنوك التقليدية المنتشرة في ماليزيا فانه من الصعب تحديد الى اي حد اسهم البنك في التنمية الماليزية, ولكن يمكن الاشارة الى ان بعض الدارسين يرون ان ممارسات هذا البنك لا تختلف كثيرا عن الممارسات التقليدية للبنوك التجارية العادية اللهم الا في الشكل (23) وكجزء من هذا التطبيق تم اصدار (قانون التكافل) عام 1984 وبموجبه تم انشاء مجموعة من شركات التأمين الاسلامية. من ناحية اخرى فقد قامت حكومة محاضر محمد بتعديل قانون العقوبات بما يجعله اكثر اتفاقا مع مبادئ الشريعة الاسلامية كما اصبحت المعرفة الدينية احد الموضوعات الاجبارية في المدارس والجامعات. كذلك حظرت على غير المالايا انشاء جامعات خاصة بهم او انشاء دور اذاعة او تلفزيون او الحصول على فترات اعلامية في تلك الدور. ورغم ان محاضر محمد لم يستخدم شعار الاسلمة لوصف تلك السياسات فان بعض الباحثين يصفون تلك السياسات (ببرامج الاسلمة) ولكنهم يضيفون ان الهدف من برامج الاسلمة هي ان تكون اداة لاكتساب الشرعية ويؤكدون ان التنمية الماليزية تتم في اطار قواعد الاطار الرأسمالي التقليدي مع محاولة اضفاء طابع اسلامي على تلك القواعد. اثر الازمة المالية الاسيوية: لعب الاسلام دورا تقليديا مهما في مجتمع المالايا ومن ثم فانه من المنطقي ان يكون للاسلام دور معين, حتى وان كان دور غير مقصود, في اي عملية في التطور الاقتصادي والاجتماعي ومن ثم تنبع الصعوبة المنهجية في تحديد اين يبدأ وينتهى البعد الاسلامي في عملية التنمية الماليزية. فالتشابك القوى بين الدين والمجتمع يجعل من الصعب فصل المتغيرات وتحديد الوزن النسبي للبعد الاسلامي. ولكننا لاحظنا انه منذ ثورة المالايا عام 1969 بدأت الحكومة الماليزية في محاولة رفع المستوى الاقتصادي للمالايا ولما كان المالايا هم مسلمو ماليزيا فقد اصبح من الصعب تحديد ما اذا كان المقصود هو رفع المستوى الاقتصادي للمالايا ام رفع المستوى الاقتصادي للمسلمين, مما ادى الى الربط الوثيق بين برامج التنمية وبرامج الاسلمة. ومنذ ان جاء محاضر محمد الى السلطة عام 1981 زاد المكون الاسلامي في برامج التنمية, وضغوط الحركات الاسلامية. بيد ان تلك الحكومة تقدم تصورا للعلاقة بين الاسلام والتنمية يدور حول التنمية المتسقة مع الاسلام, اي التي لا تتعارض مع القيم الاسلامية. ولكنها لا تقصر برامج التنمية على المفاهيم الاسلامية خاصة ان تلك المفاهيم تقبل تفسيرات متعددة. وفي هذا الاطار انشأت الحكومة الماليزية مؤسسات اقتصادية وتعليمية واعلامية اسلامية. ولكن هذه المؤسسات نشأت بالتوازي مع مؤسسات التنمية التقليدية المعروفة في الاقتصاد الرأسمالي. وعلى المستوى الاقتصادي, فان المؤسسات الاقتصادية الاسلامية لم تنتشر في بنية الاقتصاد الماليزي بحيث تؤثر بشكل قوى على التنمية الماليزية. ويمكن القول اجمالا ان التنمية الماليزية كانت محصلة للمنهج التوفيقي الذي اتبعته الحكومات الماليزية منذ عام 1969. فاذا قلنا ان ذلك المنهج ينبع من الاسلام او يتفق معه, فان هذا صحيح, كما يمكن ان نخلص منه الى ان هذا المنهج الاسلامي لعب دورا في التنمية. ولكن اذا كان المقصود ان برامج التنمية قد نبعت من المفاهيم الاسلامية المعروفة المتعلقة بالاقتصاد الاسلامي, وشكل النظام السياسي, والعلاقة بين المسلمين وغير المسلمين, فانه لا يمكن القول ان برامج التنمية كانت نابعة من تلك المفاهيم. وفي هذا الاطار كيف يمكن تصور مستقبل العلاقة بين الاسلام والتنمية في ماليزيا؟ من المؤكد ان حركة طرح المفاهيم الاسلامية في المجتمع الماليزي ستزداد في المستقبل. ولكن ذلك لا يعنى ان ماليزيا على وشك ان تتحول الى دولة اسلامية على غرار الدولة الاسلامية الاولى وذلك لعدة اسباب لعل اول تلك الاسباب هو الطبيعة التعددية العرقية والدينية للمجتمع الماليزي. فالمسلمون يشكلون فقط نصف سكان ماليزيا, والنصف الآخر مازال يمتلك جزء اكبر من القوة الاقتصادية يستطيع من خلالها ان يحطم تماما عملية التنمية اذا شعر باستمرار تهميشه في المجتمع. وهناك ما يدل على ان لدى الصينيين والهنود تخوفات ضخمة من عملية التحول الاسلامي في ماليزيا. وينبغي ان نتذكر ايضا ان ولايتى صباح وساراواك ليس بهما اغلبية من المالايا. اما ثاني تلك الاسباب فهو ان النخبة الثقافية للمالايا ليس لديها تصور واحد عن طبيعة العلاقة بين الاسلام والتنمية, وقد رأينا ان التصور الذي يقدمه التنظيم القومى يختلف اختلافا جذريا عن التصور الذي يقدمه الحزب الاسلامي الماليزي ناهيك عن التصورات التي تقدمها حركة دار الارقم, وحركة الشباب الاسلامي الماليزي, وحركة التبليغ وغيرها. اما ثالث تلك العوامل في ضغوط النظام الاقتصادي العالمي. فالاتجاه شرقا يعنى الاندماج والتكيف مع متطلبات هذا النظام والعمل في اطار قواعده التقليدية. ومن ثم لا يتصور ان يزداد اندماج ماليزيا في رابطة دول جنوب شرقي آسيا (الآسيان), او في مجلس التعاون الاقتصادي لآسيا المحيط الهادى (الأبك), او في تجمع دول المحيط الهندى للتعاون الاقليمي في الوقت الذي تتسلخ فيه في اطار قواعد اقتصادية اخرى. بيد ان هذا لا ينسحب بالضرورة على برامج التعليم والاعلام والثقافة الاسلامية, وهي برامج تزداد اهمية في المجتمع الماليزي وتشكل اساسا قويا لتدعيم هوية المالايا في مواجهة تيارات التغريب. من ناحية اخرى, فان الازمة المالية الآسيوية قد اصابت الاقتصاد الماليزي باضرار جسيمة. وقد اعلن محاضر محمد ان ماليزيا خسرت حوالي 140 مليار دولار نتيجة تلك الازمة. وقد كانت الازمة من اسباب تفاقم الخلاف بين محاضر محمد وانور ابراهيم حيث ان الاول يرى ان الازمة ترجع الى مضاربات المستثمرين الاجانب, وبالتالي رفض التعاون مع صندوق النقد الدولي لحل الازمة, ودافع عن سياسة اعادة رقابة الدولة على المعاملات المالية الدولية, بينما دافع الثاني عن مفهوم مختلف مؤداه ان الازمة نابعة من مشكلات داخلية وانه من الضروري تحرير تلك المعاملات بشكل يتفق الى حد معين مع توجهات الصندوق, وقد اسفر ذلك الخلاف عن عزل انور ابراهيم وإلقاء القبض عليه. وفي تقديرنا فان هذه التطورات ستؤدى الى تراجع الاصرار على التطبيق الاسلامي بشكل فوري على الاقل لانشغال الماليزيين بحل الازمة وبالازمة السياسية الناشبة عن صراع انور ابراهيم مع محاضر محمد. مدير مركز الدراسات الآسيوية ـ القاهرة*