يخطئ من يظن ان مصر تستطيع ان تتقوقع على ذاتها، وتضع قيوداً تحجم حركتها، وتعزل نفسها عن قضايا الأمة، ذلك ان مصر تستمد قوتها من دورها القومي الفاعل، وقدرتها على ان تشكل حائط صد أمام كل من يحاولون العبث بالأمن القومي للأمة. صحيح ان هناك من يروجون لمقولات قطرية ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، ولكن واقع التاريخ وحقائق الجغرافيا تنفي ذلك، وتؤكد دوماً ان الأمن الاقليمي المصري مرتبط ارتباطاً جوهرياً بالأمن القومي العربي وكل ما يجري في منطقة الشام وفلسطين على وجه التحديد. لقد فهم رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق مناحيم بيجين هذه العلاقة الاستراتيجية عندما قال: «ان مصر أشبه ما تكون بزجاجة قاعدتها في أسوان وعنقها في سيناء واسرائيل هي قطعة الفلين التي تنحشر في عنق الزجاجة لتقفلها وتختم عليها». وقد بنت مصر عقيدتها الاستراتيجية على مدى قرون بألا تسمح بعازل أجنبي بينها وبين الشرق وخاضت لأجل هذا الهدف حروباً عديدة ورفضت محاولات استعمارية حثيثة لدفعها إلى الانكفاء على نفسها. وحين خرج فراعنة مصر العظام تحتمس ورمسيس وغيرهما إلى الشمال فقد كانوا يدافعون عن مصر ويحمون أمنها القومي. وهو ما فعله بعد ذلك صلاح الدين الأيوبي ومماليك مصر سيف الدين قطز والظاهر بيبرس وغيرهما مما وعوا ببواطن الخطر الاستراتيجي على الوطن المصري. ان مصر هي جزء من هذا الكيان العربي الكبير تستمد فاعلية دورها بالانتماء إليه، وقيادتها للأمة، والدفاع عن أمنها وهو ما جعل منها قوة اقليمية تؤثر في مسارات الأحداث العالمية بفعل هذه المكانة. من هنا يبدو غريباً ان نستمع إلى هذه الأصوات التي تريد ان تقصر علاقة مصر بالأمة في اطار عاطفي دون ان يلزمها ذلك باستحقاقات محددة في اطار رسالتها ودورها القيادي باستثناء هذا الدور السياسي المحكوم باعتبارات واتفاقات لا تسمح لمصر إلا بالتحرك في أضيق الحدود. وإذا كنا نقول ان خيار الحرب ليس مطروحاً في الوقت الراهن، رغم تدهور الأوضاع في المنطقة بما ينذر باشتعال حرب اقليمية عاتية، إلا ان أحداً لا يمكن ان يقبل بحالة العجز الراهنة أمام المجازر وحرب الابادة التي ترتكب ضد الشعب الفلسطيني. صحيح ان القاهرة اتخذت قراراً بوقف الاتصالات مع العدو الصهيوني وصحيح ان هناك جهوداً تبذل لجمع التبرعات وتقديم المعونات للأشقاء الفلسطينيين إلا ان دور مصر أكبر من ذلك بكثير كما ان المساحة التي تفصل بين الحرب وبين الحالة الراهنة يمكن ان تقبل بممارسة المزيد من أوراق الضغط على واشنطن وتل أبيب كل على السواء. مثلاً تستطيع الحكومة المصرية ان تعلن ان السفير الاسرائيلي شخص غير مرغوب فيه وان تطلب تخفيض مستوى التمثيل إلى حدود القائم بالأعمال اسوة بمستوى التمثيل الراهن للسفارة المصرية في تل أبيب بعد سحب السفير وتستطيع الحكومة ان تغلق أبواب المركز الاكاديمي الاسرائيلي وان توقف منح أية تأشيرات للاسرائيليين إلى مصر وان تغلق كافة المصانع الاسرائيلية وتطارد البضائع الاسرائيلية التي تسللت إلى أرض مصر وتمنع نهائياً أي شكل من أشكال التعاون الرسمي مع الحكومة الاسرائيلية والجهات الأخرى. وإذا كانت مصر قد قبلت في وقت سابق الموافقة على تصدير البترول المصري إلى الكيان الصهيوني وضمنت هذه الموافقة بروتوكولات التطبيع التي ضمتها المعاهدة المصرية ـ الاسرائيلية فهي تستطيع في الوقت الراهن ان تمتنع عن تصدير البترول مستندة إلى ان اسرائيل تستخدمه في تموين الدبابات والطائرات التي تقتل اشقاءنا الفلسطينيين. ولو فكرت القاهرة في اتخاذ هذه الاجراءات وتصعيد الموقف مع العدو الصهيوني فسوف يكون ذلك بمثابة جرس انذار ورسالة سوف تدفع واشنطن إلى التدخل على الفور لوضع حد لتدهور العلاقات بين الطرفين. وهذا الموقف سوف يكون دافعاً في المقابل للعديد من الاطراف العربية الى الخروج من حالة العجز والتردد التي تعيشها في الوقت الراهن لتكون جنباً إلى جنب مع مصر في خطواتها ومواقفها. ان عودة مصر إلى ممارسة دورها القومي الفاعل بشكل أكثر وضوحاً وحسماً هو وحده القادر على انتشال الأمة من واقعها المهين، وهو وحده الذي يستطيع ان يضع الجميع امام مسئولياتهم في هذا الظرف التاريخي الخطير. اما الذين يظنون ان مصر بصمتها الراهن يمكن ان تكون بعيدة عن التهديدات والسيناريوهات المستقبلية فنحن نود هنا ان نلفت انظارهم إلى تصريحات اسرائيلية عديدة حملت عداء واضحاً كان آخرها ذلك التصريح الذي أدلى به رئيس حزب المفدال الاسرائيلي الذي توعد باقامة دولة فلسطينية في سيناء ، وهو ما اضطر وزير الخارجية المصري أحمد ماهر إلى الرد عليه بالقول ان هذا كلام حشاشين!! بالأمس قالوا على افيجدور ليبرمان انه مجنون لأنه توعد بضرب السد العالي واحتلال سيناء واليوم رأوا في رئيس المفدال الاسرائيلي حشاشاً، وفي شارون قاتلاً ومغامراً ومحباً للدماء. ترى أليس من الطبيعي ان يكون لدينا نحن في المقابل من يتصدون لجنون ليبرمان وارهاب شارون وحشحشة زعيم المفدال، والتصدي لن يكون بدفع مجانين وحشاشين إلى ساحة المواجهة ولكن بالارتكاز إلى فعل قيادي يتبعه فعل جماعي للجماهير والانظمة على السواء يساعد على انقاذ كرامة الأمة ويصون حقوقها ودماء أبنائها.