الملف السياسي: صمت الأمين العام للأمم المتحدة دهرا.. ثم نطق كفرا.. فبعد قرابة ثلاثة شهور من «التحقيقات» في مجزرة مخيم جنين، خرج كوفي عنان على العالم بتقرير يردد فيه المزاعم التي ترددها إسرائيل، وأجهزة دعايتها منذ الأيام الأولى للمجزرة !! ويخلط فيه الحقائق بصورة فاضحة ويساوي بين المعتدي المجرم والمدافعين عن وطنهم وبيوتهم.. بل إن كلمات الإدانة القوية التي تضمنها التقرير كانت من نصيب المقاتلين الفلسطينيين.. بينما وجه عنان لإسرائيل انتقادات هينة مخففة لجرائمها الوحشية.. مع الحرص على أن يلحق بها دائما «المبررات» التي دفعت الجلادين الصهاينة دفعا لفعل ما فعلوه! وحتى عدد شهداء المخيم البطل، وفقا لتقرير كوفي عنان، جاء مطابقا تقريبا لما أعلنه رعنان جيشين، الناطق الرسمي باسم شارون في أعقاب المجزرة (صحف 21 إبريل). فقد ذكر جيشين نقلا عن مصادر الجيش الإسرائيلي، أن عدد الشهداء يبلغ نحو خمسين شهيدا نصفهم من المقاتلين الفلسطينيين.. بينما يبلغ عددهم، وفقا لتقرير عنان، اثنين وخمسون شهيدا نصفهم من المدنيين، مقابل 23 جنديا إسرائيليا.. وبالتالي فإن ما حدث لم يكن مجزرة ولا جريمة حرب، وإنما شئ أقرب إلى معركة متكافئة سقط فيها عدد متساو تقريبا من الجنود الصهاينة والمقاتلين الفلسطينيين.. مع عدد من المدنيين الفلسطينيين يتحمل المقاتلون القسط الأكبر من المسئولية عن استشهادهم، لأنهم هم الذين إتخذوا المخيم قاعدة لعملياتهم ومخزنا لاسلحتهم وذخائرهم! والواقع أن كل الملابسات المحيطة بتقرير عنان لم تكن تبشر منذ البداية بأن هذا التقرير سوف يتحرى كشف الحقائق بدقة وشمول، ووضعها كاملة أمام المجتمع الدولي ليحاسب مجرمي الحرب الصهاينة على جرائمهم الوحشية. بل إن الرغبة في التستر على أبعاد الجريمة كانت واضحة منذ البداية. التحقيق.. والمهزلة تمثل قصة محاولات إجراء التحقيق الدولي في مجزرة جنين مهزلة حقيقية لعبت فيها إسرائيل والولايات المتحدة دور الشرير أو البلطجي بامتياز. فبعد ما تكشفت أبعاد الدمار الهائل الذي حل بالمخيم وأصبح واضحا أن مجزرة وحشية قد وقعت فيه.. مارس المجتمع الدولي وخاصة الإتحاد الأوروبي ضغوطا كبيرة على الأمم المتحدة لإجراء تحقيق حول ما حدث. وإزاء هذه الضغوط إضطرت الولايات المتحدة للموافقة على صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1405) بتاريخ 20 أبريل بتشكيل بعثة دولية لتقصي الحقائق حول أحداث مخيم جنين. لكن الولايات المتحدة ساندت تفسيرات إسرائيل للقرار وفرضت إدخال تعديلات عديدة على تشكيل البعثة،وحصانة للعسكريين الإسرائيليين من المثول أمامها للإدلاء بشهاداتهم، مع ضرورة التعاون مع الحكومة الاسرائيلية في التحقيقات مما يتيح لإسرائيل إمكانية التدخل في عمل البعثة. ورغم إستجابة الأمين العام للأمم المتحدة للشروط الإسرائيلية المتتالية، فإن الدولة الصهيونية عادت، بعد مماطلة طويلة، لتعلن رفضها استقبال البعثة! وبدلا من أن يعرض الأمين العام للأمم المتحدة الموقف على مجلس الأمن، فإنه إتخذ قرارا من جانبه بحل بعثة تقصى الحقائق!! وهذه مخالفه صريحة لتكليف المجلس لعنان بتشكيل البعثة وإعداد تقرير عن عملها.. وحتى بفرض توقع الأمين العام أن المجلس لم يكن ليتخذ قرارا جديدا أو إجراء ضد إسرائيل، فإن هذا لم يكن ليعطيه الحق في حل البعثة بمبادرته الفردية. وبعد قرار عنان عقدت الجمعية العامة للأمم المتحدة جلسة إستثنائية لمناقشة الموضوع، بناء على طلب المجموعة العربية. ومعروف أن قواعد التصويت في الجمعية العامة لا تعطي الولايات المتحدة حق النقض «الفيتو» لمنع إصدار قرار جديد بالتحقيق في القضية بعد أن رفضت إسرائيل التعاون مع البعثة المنحلة، وبدعم أميركي طبعا.. وهكذا إتخذت الجمعية العامة قرارا بتكليف الأمين العام بالتحقيق في أحداث جنين (بتاريخ 7 مايو الماضي) وتقديم تقرير عن نتائج التحقيق. فماذا فعل عنان؟ وكيف «حقق» في المجزرة؟ أول ما يلفت النظر في تقرير عنان هو أنه لم يجر أي تحقيق!! فالأمين العام للأمم المتحدة يقول في تقريره بالفم الملآن: إن التقرير لم يكن نتيجة تحقيق ميداني، وإنما معلومات متوافرة في المجال العام!! وإذن فقد إحتاج عنان إلى قرابة ثلاثة أشهر ليعد تقريرا من معلومات «متوافرة في المجال العام»! أي معلومات يستطيع أي باحث أو صحفي أن يجمعها بكل بساطة.. ودون أن تتوافر المعلومات المتاحة للأمين العام للمنظمة الدولية.. لذلك كان دبلوماسيون إسرائيليون على حق تماما حينما وصفوه بأنه تقرير مأخوذ عن «موقع جوجل».. وهو موقع شهير للبحث على شبكة الإنترنت!! الأمر الذي ينفي عن التقرير صفة التحقيق، بل صفة الجدية أصلا. ومعروف أن إسرائيل قد شرعت فور إقتحامها للمخيم في إزالة آثار جريمتها بأقصى جهد ممكن. وأشار شهود العيان وقتها إلى أن أنقاض المباني المدمرة قد تم نقلها إلى مواقع مجهولة، بما تحتوي عليه من جثث وأشلاء المواطنين الفلسطينيين الذين تهدمت هذه المباني فوق رؤوسهم.. وبإختصار فإن التحقيق الميداني في المخيم نفسه من الصعب أن يؤدي إلى نتائج قاطعة بعد مرور كل هذا الوقت. لكن مفهوم التحقيق الميداني أوسع كثيرا من مجرد معاينة موقع المجزرة.. فهناك شهود العيان الأحياء سواء من سكان المخيم أنفسهم - والذين نجوا من المذبحة - أو من موظفي المنظمات الدولية كوكالة غوث اللاجئين (الأونروا) والصليب الأحمر الدولي وغيرها، وفي مقدمتهم مثلا مبعوث الأمم المتحدة إلى الشرق الأوسط تيري رود لارسين الذي زار المخيم في أعقاب رفع الحصار عنه ووصف ما جرى فيه بأنه مذبحة لايمكن أن يتصورها عقل. وهناك رجال الصحافة والاعلام من مختلف دول العالم الذين تحدثوا عن رائحة الجثث المتعفنة التي تنبعث من تحت الأنقاض في كل مكان.. وهو ما أيده موظفو منظمات الإغاثة. وكل هؤلاء كان بوسع الأمين العام للأمم المتحدة أن يشكل فريقا.. تابعا له لجمع وتسجيل شهاداتهم بأشكال متعددة.. ودون حاجة للسفر إلى إسرائيل بالضرورة.. وكان من شأن هذه الشهادات أن ترسم ولو صورة تقريبية للمجزرة وللدمار الهائل الذي نزل بالمخيم. ولو أن الأمين العام كلف أحدا من موظفيه بجمع، ولو جزء يسير من شرائط الفيديو ونشرات الأخبار التليفزيونية والصور الصحفية التي تصور المخيم في أعقاب رفع الحصار عنه لأمكنه أن يكون لنفسه مثل هذه الصورة التقريبية. لكن عنان لم يهتم بذلك كله، وإنما اعتمد في تقريره على «المعلومات المتوافرة في المجال العام»! وفي مقدمتها بيانات الحكومة الإسرائيلية التي جاء كثير من بيانات تقريره متطابقا معها. ولم يكن هذا عن غفلة بالطبع.. فأي باحث مبتدئ يعرف حق المعرفه أنه لا يجوز له الاعتماد على بيانات الطرف المتهم بارتكاب جريمة بهذه البشاعة ولا على «المعلومات العامة» حينما يتعلق الأمر بكارثة إنسانية بهذا الحجم.. لكن الإطلاع على مضمون التقرير وما فيه من انحياز للدولة الصهيونية يوضح بجلاء لماذا اختار عنان أن يتجاهل المصادر التي يمكن الاعتماد على جديتها وموضوعيتها. انحياز سافر يحرص التقرير على تفادي استخدام كلمة مذبحة أو مجزرة في وصف ما حدث في مخيم جنين، ويتحدث التقرير بنبرة من اللوم المخفف لإسرائيل عن استخدام أسلحة ثقيلة مثل الدبابات أو طائرات الهليوكبتر في قصف واقتحام المخيم، مما أدى لتهديد حياة المدنيين في المخيم المزدحم بالسكان، إلا أنه يسارع إلى تبرير ذلك بإلقاء اللوم على المقاتلين الفلسطينيين لأنهم اتخذوا من المخيم قاعدة لهم ولأن الجيش الإسرائيلي واجه مقاومة عنيفة. فهل كان الأمين العام يتوقع أن يتخذ المقاتلون قاعدة لهم في المستعمرات الإسرائيلية أو في إحدى الكيبوتزات؟! أليس الطبيعي أن يعيش المقاتلون الفلسطينيون بين جماهير شعبهم؟ وهل كان المطلوب منهم أن يستسلموا ولا يبدون مقاومة عنيفة؟! ويلوم التقرير الجانبين على لجوئهما للعنف وتعريض حياة المدنيين للخطر. لكنه يخص الفلسطينيين بالجانب الأكبر من اللوم مؤكدا «بوجه خاص» على «الهجمات الانتحارية التي تسببت في معاناة كبيرة للشعب الإسرائيلي ولاقتصاده ومشيرا إلى مزاعم الجيش الصهيوني بأن 28 هجوما انتحاريا قد انطلقت من منطقة جنين في الفترة من أكتوبر 2000 إلى أبريل 2001.. فيما يمكن اعتباره تبريرا لهجوم الدولة الصهيونية الوحشى على المخيم لوضع حد للعمليات الاستشهادية. ويشير التقرير إلى أن القوات الإسرائيلية قد «أخرت طويلا» وصول الرعاية الطبية للجرحى، ومنعت وصول فرق الإغاثة الطبية والإنسانية للمخيم، وهاجمت سيارات الإسعاف (يرصد ثلاث حالات فقط لمثل هذا الهجوم!! بينما كانت هذه قاعدة عامة تقريبا شاهدها مرارا وتكرارا كل مشاهدي نشرات الأخبار في العالم).. ويضيف أن المدنيين عانوا بشدة من جراء فرض حظر التجول وقطع المياه والكهرباء والهاتف.. بينما عانى خمس سكان المخيم (فقط؟!) من نقص إمدادات الطعام. كما يشير التقرير إلى أن بعض جماعات حقوق الإنسان والشهود الفلسطينيين ذكروا أن الجنود الإسرائيليين اتخذوا بعض المدنيين كدروع بشرية.. (لاحظ تعمد إضعاف الشهادة: بعض.. الخ) إلا أنه يتحفظ فيما يتصل بإسناد أية إتهامات إلى القوات الإسرائيلية قائلا إن الأمور مازالت تفتقر إلى الوضوح والتيقن فيما يتعلق بسياسات وحقائق رد القوات الإسرائيلية على المقاومة الفلسطينية في مخيم جنين ترى هل كان مطلوبا تسوية المخيم بأسره بالأرض وإبادة سكانه عن بكرة أبيهم حتى يمكن الحكم «بوضوح وتيقن» على سلوك القوات الإسرائيلية؟! وفي المقابل فإن أكثر عبارات التقرير حدة وقطعا في صياغتها هي التي تتعلق بالحكم على رجال المقاومة، حيث يؤكد عنان ان المقاتلين الفلسطينيين في المخيم، وفي أماكن أخرى، انتهجوا أساليب تمثل انتهاكات للقانون الدولي، ادانتها - وما برحت تدينها - الأمم المتحدة! يالها من صياغات حاسمة! لن نتحدث هنا عن إدانة الضحية.. فمقاتلوا مخيم جنين، وحتى سكانه المدنيين، لم يكونوا ضحايا.. ولم يساقوا إلى الذبح سوقا.. بل حاربوا ببطولة واستشهدوا بكرامة كما يليق بالرجال من أبناء شعب عظيم. لكن العبارات التي أوردناها - شأن التقرير كله - هي التي تتجاهل القانون الدولي فعلا، وتمثل انتهاكا فظا له. فالقانون الدولي يؤكد حق الشعوب في مقاومة الاحتلال.. وهو حق أصيل وثابت في مواثيق دولية عديدة من بينها إتفاقيات جنيف التي تسبغ الحماية القانونية على رجال المقاومة. ولو لم يكن هناك احتلال إسرائيلي لأراضي الشعب الفلسطيني، سواء في ذلك أرض الـ 1948 أو الضفة والقطاع لما كان هناك داع لوجود المقاومة أصلا.. لكن الأمين العام للأمم المتحدة يتجاهل هذا الواقع. ويتجاهل الاستيطان وابتلاع الدولة الصهيونية لأراضي الفلسطينيين.ويتجاهل رفض إسرائيل للقرارات الدولية بدءا من قرار التقسيم وعودة اللاجئين حتى القرار (1405) الخاص بالتحقيق في مجزرة جنين.. مرورا بقرارات تعد بالعشرات لمجلس الأمن والجمعية العامة. ويتجاهل حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال..ولا تعرف لغته الحسم إلا حينما يدين المقاتلين الفلسطينيين بزعم انتهاكهم للقانون الدولي، حينما يقاتلون الاحتلال دفاعا عن حرية وطنهم!! المصداقية الضائعة وسنفترض، جدلا فقط، أن عدد الشهداء في جنين هو إثنان وخمسون فقط،كما يزعم التقرير استنادا إلى المصادر الإسرائيلية.. فهل ينفي ذلك أن ما شهده المخيم هو مجزرة قام بها أحد أحدث جيوش العالم واقواها ضد أبناء شعب يقاوم الاحتلال؟! وهل كانت هناك أصلا ضرورة عسكرية تفرض اقتحام المخيم؟! إن الأمين العام لم يطرح مثل هذا السؤال البديهي على نفسه أصلا. فبفرض أن المخيم يمثل ركيزة لإنطلاق العمليات الاستشهادية،وقاعدة لنحو مائتي مقاتل.. هل يعني هذا أن من حق إسرائيل تدميره على رؤوس سكانه الذين يزيد عددهم على عشرة آلاف؟ ألم يكن كافيا لوقف العمليات المنطلقة من المخيم، فرض حصار محكم عليه مثلا؟ بالنسبة لإسرائيل هذا لا يكفي بالطبع.. لأنها تريد تحطيم مقاومة الشعب الفلسطيني وتركيعه تماما. ولكن ما بال الأمين العام للأمم المتحدة.. أبرز ممثل مفترض للقانون الدولي والشرعية الدولية؟! إن تقرير كوفي عنان حول مخيم جنين يكشف بوضوح مدى سيطرة الولايات المتحدة على المنظمة الدولية، وتسخيرها لخدمة أهداف سياستها وسياسة حلفائها الأقرب وخاصة إسرائيل كما أن الإنحياز السافر الذي يبديه الأمين العام للموقف الإسرائيلي، المدعوم أميركيا، يشير إلى مدى تدهور مصداقية المنظمة الدولية. وقد لقي التقرير انتقادا واضحا من منظمة دولية تحظى باحترام واسع هي منظمة العفو الدولية التي وصفته بأنه «ليس كاملا بالقطع» معربة عن «الأسف لكون الحكومة الإسرائيلية أعاقت البحث عن الحقيقة والعدالة». لكن الإدانة الأقوى لتقرير عنان جاءت من جانب منظمة أميركية تحظى باحترام واسع هي الأخرى..نعني منظمة «هيومان رايتس واتش» - (مراقبة حقوق الإنسان) التي وصفت التقرير بأنه «منحرف كليا».. وأكدت أن «الجهة الوحيدة التي يمكن أن تشعر بالارتياح تجاه هذا التقرير هي تلك الجهة التي حالت منذ البداية دون إجراء تحقيق من قبل الأمم المتحدة». أي السلطات الإسرائيلية. وإذا كان هذا هو رأي منظمة أميركية ذات مكانة دولية محترمة، فهل نبالغ نحن إذا اعتبرنا التقرير مذبحة جديدة للحقيقة والضمير واغتيالا ثانيا لشهداء مخيم جنين؟؟ ـ كاتب مصري