لا أحد يريد بقاء قوات أجنبية محتلة في بلاده، وهذا هو المنطق، إلا أن المواقف في العراق تبدو متباينة من هذا الموضوع، وقد يفسر بأشكال مختلفة، حيث «لا أحد يريد استبدال احتلال باحتلال آخر»، ولاسيما هذا الآخر منغمس «حتى النخاع» في حرب أهلية طاحنة في البلاد، ما يزيد الأمر سوءاً، كما يرى معظم العراقيين، أن الاحتلال الأميركي، لم يأتِ محرراً، كما يدعي، وإنما مخرباً لكل البنى التحتية والفوقية، ومدمراً للنسيج الاجتماعي العراقي، لذا فإن انسحابه بالشكل الذي حدث، يعني ترك السفينة المليئة بالثقوب، بلا ملاّحين، وتعبث بها الأمواج من كل حدب وصوب، ولا أحد يعرف في أي اتجاه تسير، أو في أي قاع سترسو.

حدث مهم.. ولكن!

في صباح 19 أغسطس 2010، شهد العراق «حدثاً مهماً»، بانسحاب آخر دفعة من القوات القتالية الاميركية البلاد، بعد ثماني سنوات من الاحتلال، والحرب التدميرية، قبل 12 يوماً من الموعد المحدد لها، وقبل أكثر من أربعة أشهر من الموعد المحدد للانسحاب الكلي، في نهاية ذلك العام.

وذكرت مصادر إعلامية وعسكرية آنذاك، أن معظم أفراد اللواء المكون من أربعة آلاف جندي انسحبوا من العراق في مركباتهم المدرعة عبر الحدود، فيما غادر مئات من جنود اللواء، الذين كانوا مسؤولين عن مهام إدارية ولوجستية، العاصمة بغداد جواً.

وبلغ عدد القوات الأميركية في العراق ذروته إلى 160 ألف جندي.

وبعد سحب القوات القتالية، في 19 أغسطس 2010، تم الإبقاء على 50 ألف جندي فقط في العراق، لمساعدة قوات الأمن، قبل العودة إلى الولايات المتحدة بحلول نهاية عام 2011.

أنجزت مرتين!

آنذاك، قال الرئيس الأميركي باراك اوباما في بيان:« بعدما توليت المنصب بفترة وجيزة وضعت خطة لإنهاء حرب العراق بشكل مسؤول.. نعتزم إنهاء مهمتنا القتالية خلال الشهر الجاري، ثم من المقرر أن نكمل الانسحاب الأساسي لقواتنا».

وكان الرئيس الأميركي السابق جورج بوش أعلن في مايو 2003، بعد مضي شهر على الاحتلال، من على ظهر حاملة الطائرات النووية ابراهام لنكولن، إنهاء العمليات العسكرية الكبرى، مؤكداً أن «المهمة أنجزت»، ثم جاء أوباما ليعلن أيضاً، بعد ثماني سنوات، أن «المهمة أنجزت».

إنجازات الفشل

ومع انسحاب القوة القتالية الأميركية من العراق، «قبل أربع سنوات»، تساءل العراقيون عن المهمة، التي أنجزت في بلادهم من قبل الإدارة الأميركية، حتى تصف انسحاب قواتها بــ «اللحظة التاريخية»، حيث تساءل الكاتب علاء أحمد: «ما هي المهمة التي أنجزت؟ هل هي مهمة التدمير أم استعراض القوة في بلد ترك مخرباً من كل الجوانب؟».

وأوضح أن «الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية ليست على ما يرام في البلاد، وهناك الكثير من القلق على مصير الوحدة الوطنية في ظل اطروحات تدعو للفيدراليات المتعددة وتوزيع صناعة القرار على أكثر من مصدر».

وقال إن الفساد المالي ضاعف من معاناة الناس وأفشل حملة الإعمار «التي يجري الحديث عنها»، منذ إعلان إنجاز المهمة حتى لحظة الانسحاب التاريخية.

صورة ضبابية

وكان البيت الأبيض ذكر أن الرئيس الأميركي باراك أوباما راضٍ عن التقدم الذي حققه العراق من الناحية الأمنية، مما سيسمح للجيش الأميركي بتسليم المهام الأمنية للقوات العراقية.

إلا أن المراقبين أكدوا أن العراقيين غير راضين عن مؤسستهم العسكرية وأدائها، خصوصاً وأن التدريب الذي تلقته والتجهيزات التي حصلت عليها لا يؤهلها للقيام بمهامها على أكمل وجه، مقارنة بالتحديات الخارجية والداخلية التي تواجه البلاد.

وأوضح عراقيون أن الصورة في البلاد أصبحت ضبابية، حيث قال الموظف الحكومي نوفل عبدالله، إن لحظة الانسحاب لو كانت في غير الصورة الحالية للعراق لكانت فعلاً «تشكل منعطفاً تاريخياً في حياتنا كعراقيين، لأن بلادنا ستتحرر من قيود الاحتلال ومخططاته».

وتابع: «لكن الأوضاع الراهنة تنذر بمخاطر كبيرة تضيع علينا فرحة غياب الدبابات الأجنبية عن شوارع مدننا، وربما المهمة التي أنجزها بوش في العراق ليست الحرية والديمقراطية أو غيرها، بل هي مهمة التدمير وتعميق الخلافات بين مكونات المجتمع».

ثمن الاحتلال

من جانبه، قال المحلل السياسي كامل محمد حازم، إن تقييم مرحلة ما بعد 2003 تؤكد أن العراقيين دفعوا ثمناً غالياً لا يوازي المكاسب، التي حصلوا عليها، لكن الانسحاب الأميركي خطوة جيدة لو كانت هناك قوات عراقية حقيقية قادرة على ملء الفراغ بشكل كامل.

وعبر عن اعتقاده بأن دوافع الانسحاب ليست لأن «المهمة أنجزت»، بل لوجود «مأزق لم يكن بالحسبان مواجهته لدى صناع القرار في البيت الأبيض الذين كانوا يعتقدون أن العراقيين يستقبلونهم بالورود، إضافة إلى أن قوات الاحتلال خلال فترة كثافة وجودها في العراق تعاملت على الأرض بوحشية وقلة خبرة بطبيعة المجتمع وتقاليده، مما فاقم الأمور».

3 احتمالات

فيما تساءل الكاتب الصحافي حميد عبدالله عن صورة العراق ما بعد الانسحاب الأميركي، في مقال نشرته صحيفة «المشرق» المستقلة، عن إمكانية بضع مئات من الجنود الأميركيين على حماية الأمن في العراق، بينما عجز 150 ألفاً عن تحقيق ذلك؟.

وأضاف:«أعتقد أن العراق لا يمتلك أسلحة وتجهيزات كافية تجعل منه دولة قادرة على الدفاع عن نفسها في الوقت الذي يبحث فيه الارهاب عن مناطق رخوة».

ولفت إلى أن أمام العراق وفقاً للصورة الحالية ثلاثة احتمالات في مرحلة ما بعد الانسحاب، أولها «ربما نتحول إلى صومال ثانية، وثانيها يتفكك العراق ويقسم طائفياً وعرقياً، وثالثها قد نعود دولة مزدهرة وقوية ومتطورة، وهو أضعف الاحتمالات، لأن المهمة التي بدأها بوش لم تسع لتحقيق ذلك».

ويرى المراقبون أنه رغم المصاعب والمشاكل التي خلفها الاحتلال للعراق، إلا أن هناك بعض الإيجابيات منها التعددية الحزبية وكثرة وسائل الإعلام، إلا أن المنجزات لو قورنت بالإخفاقات والخسائر لكان الفارق شاسعاً، لاسيما أن القوات الأميركية في العراق خسرت 4415 قتيلاً منذ غزوها لهذا البلد العربي، وأصيب عدة آلاف من جنودها بجروح، فضلاً عن خسائر مادية بآلياته العسكرية من طائرات ودبابات وآليات.

تلميع المالكي

ومن ثم، زار رئيس الوزراء السابق نوري المالكي واشنطن، وأجرى مع الرئيس باراك أوباما محادثات حول العلاقات الثنائية بعد انسحاب القوات الأميركية من العراق في ظل استمرار الاضطرابات داخل البلاد وكثرة التحديات أمام طريقة تنمية العلاقات بين البلدين.

وأشاد أوباما عقب المحادثات «بالتقدم الملحوظ الذي شهدته الحكومة العراقية في الحفاظ على الأمن والسلام وإعادة الإعمار»، مؤكدًا أن الولايات المتحدة ستدعم العملية الديمقراطية وإعادة الإعمار في العراق، كما ستساعد العراق في تدريب قوات الأمن، وستتحمل المسؤولية الأمنية مع الجانب العراقي للحفاظ على السلام والاستقرار في المنطقة، فيما قال المالكي إن العراق سيعمل على تعزيز علاقات الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع واشنطن، وتوثيق التعاون معها في الشؤون الأمنية والأنشطة الاقتصادية التجارية، مشيراً إلى أن أكبر الأولويات في الوقت الراهن هي الحفاظ على سيادة العراق واستقراره.

الدور الإيراني

ويرى بعض المحللين أن إيران تؤدي دوراً أكثر بروزاً في الوضع العراقي بعد انسحاب القوات الأميركية من العراق، الأمر الذي سيشكل تحديات جديدة للعلاقات الأميركية العراقية، ومن ناحية أخرى، برزت التأثيرات السلبية الناجمة عن اضطرابات الأوضاع في سوريا، الدولة المجاورة للعراق، حيث قد يهتز استقرار الوضع العراقي، إضافة إلى عدم التأكد من موقف المالكي من الحفاظ على العلاقات مع الولايات المتحدة، حيث وجه شكوكه لسياسة واشنطن مع بغداد بين وقت وآخر إبان توليه رئيساً للوزراء، ما جعل واشنطن تواجه صعوبة أكثر في التعامل مع الحكومة العراقية، وتعاملها مع أحداث المنطقة، وانعكاسات ذلك على سياستها الداخلية، ومدى حفاظها على الوحدة الوطنية.

العراق خارج المألوف

ولم تكن توقعات المحللين والمراقبين السياسيين، وحتى العديد من المسؤولين الأميركيين، خارج الأمر الواقع، بل كانت أدنى من المتوقع، لأن «العهدة» التي تسلمها المالكي من أوباما، كانت «منخوبة»، فزادها خراباً ودماراً، حتى بات العراق خارج المألوف، خلال ثماني سنوات من حكم المالكي الذي خلفه حيدر العبادي، على الرغم من الدعم الأميركي والإيراني، والموازنات الضخمة التي إهدرت.

ويجرد بعض المراقبين، ما حصل خلال السنوات التي تولى بها المالكي ووزاراته حكم العراق، وخاصة السنوات التي أعقبت الانسحاب الأميركي في 2011، مشيرين إلى أن الأموال الطائلة التي خصصت لملف الكهرباء وتحسين مختلف الخدمات في العراق ذهبت إلى جيوب بعض رجال الأمن والسياسة المتنفذين، بحسب عراقيين، مما دفعهم للتظاهر من جديد رفضاً للفساد والظلم والظلام.

ولم يغب اسم المالكي عن التظاهرات التي يشهدها العراق، فهو المتسبب في تردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية، بحسب الشعارات التي رُددت فيها، بالإضافة إلى اتهام أعضاء في مجلس النواب له بذلك.

حقبة الفساد

ويقول النائب عن التيار المدني فائق الشيخ علي إن تظاهرات المدن العراقية ضد سوء الخدمات التي فشلت في إصلاحها حكومتا المالكي منذ 2006 وحتى 2014 تشير إلى حجم الفساد الكبير في تلك الحقبة.

ويضيف إن المالكي يتحمل مسؤولية إهدار العراق 37 مليار دولار أميركي كانت مخصصة لدعم القطاع الكهربائي، لكنها ضاعت في أماكن غير معروفة، وبقي قطاع الطاقة يعاني، وبالتالي أصبح المواطن هو المتضرر الوحيد.

الاحتلال متهم أول

ويقول الصحافي والكاتب مازن الزيدي إن حكومة المالكي كانت ثمرة نظام المحاصصة الذي أسسه الأميركيون في العراق بعد إسقاط نظام صدام حسين 2003، وتمسكت به القوى السياسية العراقية.

ويضيف إن تحميل رئيس الوزراء الهارب إلى إيران كامل المسؤولية عن التوترات السياسية والانهيار الأمني في العراق يجانب الحقيقة والوقائع المتاحة، حيث كانت حكومة المالكي تحظى بمشاركة الأكراد والسنة فضلاً عن الشيعة، وبالتالي فإن جميع هذه المكونات تتحمل المسؤولية.

ويقول إن هذه الأطراف كانت تشارك في حكومتي المالكي، وهي الآن موجودة ضمن طاقم حكومة حيدر العبادي، لكنها تفشل في تقديم الخدمات، وفي عهدها شهدنا سقوط ثاني محافظة عراقية (الرمادي) بيد داعش.

لكنه يتهم المالكي بتعيين قادة أمنيين فاسدين وشخصيات سياسية وتجارية مقربة منه في مناصب حكومية رفيعة، حصلت من خلالها على مقاولات ومشاريع كبيرة لم تقدم شيئاً لتحسين الوضع في العراق.

ويتهم الكثيرون المالكي بأنه المتسبب في سيطرة تنظيم «داعش» على أجزاء واسعة من البلاد، إضافة إلى اتساع هوة الخلافات مع إقليم كردستان.

مسؤولية سياسة

أما الناشط في الاحتجاجات التي تشهدها بغداد غضنفر لعيبي، فيقول إن جميع الحكومات المتعاقبة منذ 2003 وحتى اليوم تتحمل مسؤولية سوء الخدمات ونقص الطاقة.

ويدلل على وجهة نظره بالقول إن صرف أكثر من ثلاثين مليار دولار على ملف الطاقة يكفي لإنتاج الكهرباء لثلاث دول بحجم العراق.

ويضيف إن المالكي بدّد الأموال على مشاريع، بعضها وهمي، والآخر لم يكتمل «وغيرها لم يعمل بسبب عدم توفر وقود لتشغيله».

ورغم إقراره بأن جميع الكتل السياسية في العراق تتحمل مسؤولية هدر الأموال، فإنه يرى أن المالكي يتحمل الجزء الأكبر لأنه «وفر الحماية للفاسدين وهو شريكهم الأكبر»، ولكن المالكي ليس سوى وليد سياسي واحد من الذين اعتمدهم الاحتلال في رسمه للسياسة العراقية على الأساس الطائفي والعرقي، منذ العام 2003، لحد الآن.

إضاءة

تولى نوري المالكي منصب رئيس الوزراء في العراق من 2006 وحتى 2014، وخلال هذه الفترة دخلت مئات المليارات ميزانية الدولة، حيث تراوحت بين 80 و130 مليار دولار سنوياً، حسب الأرقام الرسمية، لكن العراقي لم يلمس أثراً على الأرض للأموال الطائلة التي خصصت للطاقة وتحسين الخدمات.

تحديات

يرى محللون أن العلاقات الأميركية العراقية ستواجه تحديات كثيرة بسبب عدم استقرار الوضع الأمني في العراق، حيث اعترف نائب رئيس الأركان للقوات الأميركية الموجودة في العراق بصعوبة التكهن بمستقبل الوضع العراقي بعد انسحاب قواته من العراق.