بالأمس القريب، تجرأ رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، معلناً تأييده ترشيح رئيس تكتل التغيير والإصلاح النائب ميشال عون للرئاسة. وهكذا، نجح الزعيمان المسيحيان في افتعال مشهدية ثنائية لافتة، لن يكون سهلاً تجاوزها في السياسة، وإن كان الأمر مختلفاً في الرئاسة، شربا نخب الرئاسة والجمهورية، ليطويا «صفحة سوداء» ميزت تاريخ العلاقة بينهما لما يزيد عن ربع قرن، التي كانت دفعت بأحد المواطنين، يوماً، إلى وضع لافتة على سيارته: «جعجع طِلع (من السجن)، عون رجِع (من المنفى).. السيارة للبيع، وأنا مهاجر».
«أنا مواطن لبناني، لديّ ما يكفي من روح التمرد إلى أبعد الحدود وإلى آخر العمر». هي عبارة قالها عون يوماً لـ«البيان»، مرفقــــة بتأكيده «الجنرال مش مشكلجي ومش حــقود»، وفي 18 من الجاري، شرب المحتفلون نخب «الخطوة التاريخية»، الداعمة له، وهو في الـ 80 من عمره، في سعيه الحثيث للوصول إلى بعبدا. ولم يفت أحد سماعه يقول: لم ولن نتعامل بكيدية مع أحد، حتى في صلب مرحلة الخصومة، لكن فات الكثيرين تفصيل صغير: لم يغير الاتفاق مع «القــــوات» من موقف عون، وهو لا يزال غير مستــــعد للنزول إلى المجلس النيابي للتنافس مع أحد، فإما يكون المرشح الوحيد وإما يقاطع الجلسة.
وما بين الخصومة والمصالحة، وفي انتظار جلسة الانتخاب الرئاسية في 8 فبراير المقبل، التي يتردد أنها ستكون «مفصلية»، تضج الذاكرة بمحطات عدة في سجل الضابط الميداني السابق وقائد الجيش السابق والمنفي السابق والزعيم السياسي الحالي، الذي لم يخترْ يوماً الحياد، بدءاً من «حرب التحرير» في العام 1989 ضد القوات السورية قبل دخولها بعام واحد إلى جميع المناطق اللبنانية، مروراً بالسنوات الـ15 التي قضاها في فرنسا منفياً، ووصولاً إلى الإدلاء بشهادته من على منبر الكونغرس الأميركي ضد سوريا، ومن ثم عودته إلى لبنان قائداً، وليس لاجئاً يطلب السماح.
في مفهومه، وهو المعروف بكونه من هواة المطالعة ومن المتأثرين جداً بالزعيم الصيني ماو تسي كونغ، إلى جانب تميزه بإطلاق الشعارات الشعبوية، على غرار شعاره «يا شعب لبنان العظيم»، أنه «يجب أن يبقى الوطن، لتبقى الرئاسات»، و«الحياة خارج إطار الحرية شكل من أشكال الموت»، و«الصلاة في ظل الاحتلال خطيئة»، هذا إلى جانب ترديده دوماً عبارة: «اللبناني ليس رأس غنمة تُساق إلى مسلخ قلم الاقتراع».
من سجل سيرته
وبالعودة إلى بعض من تاريخ، الذي يأبى إلا أن يتحدث بلغة الناس العاديين، من دون أي تكلف، هو «الجنرال العنيد» في الثوابت، خصوصاً حيال أي أمر متعلق بـ«حرب استباقية» أو «معركة وهمية» تطاوله وتياره بمفاعيلها.
دوماً كان يشعر بأن «رأس التيار مطلوب»، وأنه ليس مضطراً إلى الدفاع عن حقوقه وعن نفسه على مستوى التمثيل داخل مؤسسات الدولة التنفيذية والإدارية والأمنية فحسب، بل إلى الاحتفاظ بدور الشريك، وهو أمر له مستلزماته على مستويات عدة، بينها نوعية الحقائب التي يريدها وكتلته في أي حكومة، إضافة إلى نوعية تمثيله السياسي.
ميشال نعيم عون، البالغ من العمر 80 عاماً، هو ذاك الشاب الذي لم يكن يتوقع، عندما قُبِل لدخول المدرسة الحربية، عام 1955، أيـام الرئيس كميل شمعون، أن يأتي يوم يجد فيه اللواء فؤاد شهاب نموذجاً للضباط، على رغم اختلاف المعتقد السياسي بينه وبين البيئة الكتلوية الشمعونية، التي نشأ فيها هذا الضابط في محلة حارة حريك- قضاء بعبدا.
كذلك، لم يكن يتوقع ساعة انضمامه إلى السلك، أن ذاك القائد للجيش سيسلمه السيف رئيساً للجمهورية عند تخرجه ضابطاً في العام 1958، وفي يوم من الأيام سيكون الضابط الصغير أحد المرشحين الأقوياء للرئاسة.
تدرج في قيادات عدة، من إمرة فصيلة، حتى إمرة كتيبة، وإمرة لواء، مروراً بإنشائه اللواء الثامن في الجيش وتدريبه (1982)، إلى أن عُين قائداً للجيش، عام 1984، بمباركة أميركية- فرنسية وموافقة سورية. وحينها أطلق شعاره الشهير «جيش قوي للبنان قوي».
ترأس الحكومة العسكرية في نهاية عهد الرئيس أمين الجميل، في 22 سبتمبر 1988، وخاض «حرب التحرير» ضد القوات السورية (1989) و«حرب الإلغاء» ضد القوات اللبنانية (1990)، قبل أن يتوجه إلى منفاه الباريسي.
وفي 7 مايو 2005، عاد إلى لبنان وخاض الانتخابات النيابية، منطلقاً من معارضته لاتفاق الطائف، وموقفه الشهير منه: «الحل يمكن أن يكون الطائف زائداً فاصلة، أو شيئاً جديداً تماماً»، وترأس أكبر كتلة نيابية مسيحية في مجلس النواب. وذلك، قبل أن يوقع ورقة التفاهم مع حزب الله (6 فبراير 2006)، ويتحالف مع النائب سليمان فرنجية في انتخابات 11 يونيو 2009.
معارك ودماء
بينه وبين جعــــجع الكثـــير من الدماء، بفعل الحروب والمعارك التي خاضــــاها في السنوات الأخيرة من الحرب الأهلية (1975- 1990)، علماً بأن العلاقة المباشرة بين الطرفين بدأت العام 1986، مع اغتيال قائد اللواء الخامس في الجيش اللبناني اللواء خليل كنعان.
كان عون قائداً للجيش، وجعجع قائد «القوات»، الميليشيا المسيحية الأقوى في ما كان يعرف بـ«المنطقة الشرقية» (الضاحية الشرقية لبيروت). اتهم عون جعجع باغتيال كنعان، وظلت الأمور مضبوطة بينهما، بفعل وجود رئيس الجمهورية أمين الجميل، الذي بدوره عاد وأجج الصراع بينهما مع انتهاء ولايته الرئاسية عام 1988، وتسليمه عون قيادة الدولة (قائداً للجيش) بحكومة عسكرية انتقالية.
في 13 أكتوبر 1990، نُفِي عون إلى باريس، ودخل جعجع السجن بعد أربع سنوات، وبدأت مرحلة ما عُرِف بــ«الغبن المسيحي»، في حين تابع أنصار الطرفين صراعاتهم. وبعدما تحقق مطلب عون وجعجع المزمن بخروج الجيش السوري من لبنان، عاد عون من منفاه، وخرج جعجع من السجن، ليفتتحا موسماً جديداً من الصراع الثنائي على الساحة المسيحية.
وبعد شهور، انضم عون إلى فريق 8 آذار، وبقي جعجع قطباً في فريق 14 آذار، فتوالت فصول الصراع الانتخابي والسياسي بينهما، وصولاً إلى موعد 18 يناير 2016، الذي جاء ترجمةً لحوار ثنائي انطلق في ديسمبر 2014 ووثيقة سياسية عرفت باسم «ورقة النوايا» في يونيو 2015، فأرسى دعائم وحدة بين أبرز الأخصام المسيحيين.