يدرك الحوثيون أنهم مكون واحد فقط من مكونات المجتمع اليمني، وأنهم لن يستطيعوا إقصاء بقية المجتمع أو الاستفراد بحكم البلاد، أو حتى جزء منها، وتعلم هذه الجماعة كذلك، أن الأطراف السياسية الأخرى لا تستطيع استبعادها أو إقصاءها من المشاركة في العملية السياسية، التي ارتضى الجميع الاحتكام لقواعدها المقرة في الدستور الحالي، وتم تثبيتها وتطويرها في مخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وهذا أمر يضع الجماعة أمام خيارات صعبة، من أجل الوفاء بمتطلبات التموضع على الخارطة السياسية، كطرف وطني، أو أن تظل وكيلاً لمشروع خارجي.
ولأن الجماعة كانت مشاركة في مؤتمر الحوار الوطني الشامل، وتبنت الغالبية العظمى من مقرراته، ولهذا، فإن الانقلاب المفاجئ على تلك المخرجات، أثار الكثير من الشكوك حول امتلاك الحوثيين لقرارهم من عدمه، خاصة أن التحفظات التي أظهروها في ختام أعمال المؤتمر، قوبلت باستعداد من القيادات السياسية لمناقشتها، وقد اقتصرت تلك التحفظات على عدد أقاليم الدولة الاتحادية المقترحة، وحدود هذه الأقاليم، وبما يحقق التوازن والإنصاف بين مختلف الأقاليم.
والآن، وبعد أربع سنوات من الحرب التي سببها الانقلاب، يدرك الحوثيون أن باستطاعتهم أن يكونوا طرفاً في العملية السياسية، إذا تخلوا عن الانقلاب، وقبلوا بالحل السياسي، ولكنهم لا يستطيعون الجمع بين العمل في الإطار الوطني، وأداء دور الوكيل للمشروع الإيراني في المنطقة، ليس فقط لأن اليمن بتركيبتها الاجتماعية، لا يمكن أن تتحول إلى دولة كانتونات طائفية أو مذهبية، ولكن لأن حقائق التاريخ منذ القدم، تؤكد فشل كل محاولة لإقامة حكم طائفي أو جهوي، وأن استقرار هذا البلد بموقعه الهام، لا يزدهر ولا يستقر، إلا في ظل التعدد والتنوع والتعايش، بدون إقصاء أو هيمنة.
الوطنية أو الطائفية
في الحالة الوطنية، يمكن للحوثيين، بعد التخلي عن السلاح، أن يكون لهم برنامجهم السياسي، يقدموه للناخبين، وبمقدورهم إبرام التحالفات المرحلية أو الاستراتيجية مع القوى الأخرى، لأن الدستور الحالي، ومشروع الدستور الاتحادي، يوفر الضمانات الكافية لهذا التمثيل والمشاركة في صناعة القرار السياسي، وهو أمر من شأنه أن يجعل اليمن دولة إخاء مع جيرانها، وسنداً وعوناً لهم، كما سيعزز هذا الجوار بالمصالح المشتركة الاقتصادية والسياسية، إلى جانب ما يميز هذه العلاقة من روابط اجتماعية وثقافية ضاربة في عمق التاريخ.
أما في حال أصرت الجماعة على البقاء كوكيل لإيران ومشروعها في المنطقة، والقائم على تقسيم المجتمع وفق أسس مذهبية وطائفية، فإنها ستواصل ضرب وحدة وتنوع وتعدد المجتمع، وتحول هذا التنوع من عامل قوة وثراء ثقافي واجتماعي، تتفوق معه قواعد المواطنة المتساوية، إلى أداة للصراع والاحتراب الأهلي المستمر، ومعه سيفقد الفرد القدرة على الإبداع والتميز، لأن الانتماء مقدم على الكفاءة، وبالتالي، فإن أقصى ما يمكن للحوثيين فعله، هو أن يؤدوا وظيفة إشعال الصراع، بدلاً أن يكونوا جزءاً من الاستقرار والبناء.
عزلة محلية وإقليمية
الحالة اللا وطنية، وإلى جانب أنها تتعارض مع أسس الانتماء ومع الدستور، فإن الجماعة الحوثية ستحكم على نفسها بالعزلة، وستفقد قاعدتها تدريجياً، كما حصل مع جماعات وحركات في تجارب مشابهة، كما أن الفئة الاجتماعية التي تتحدث بالنيابة عنها، قادرة على خلق أداة بديلة للتعبير عن تطلعاتها وتمثيلها في صناعة القرار السياسي.
أما إقليمياً، فستجد نفسها معزولة عن المحيط الجغرافي لليمن، وستصطدم بحقائق التاريخ والجغرافيا، كما أنها سترهن مصيرها ووجودها، وحتى مواقفها، بالتجاذبات الإقليمية، لتجد نفسها يوماً ما وقد غابت عن المشهد، كما حدث مع قوى سياسية مختلفة في اليمن والمنطقة، رهنت حضورها بالخارج، وعندما انتهى هذا الخارج لأي سبب من الأسباب، تحولت إلى دكاكين سياسية للإيجار.
تحديات اليمن
يعاني اليمن من تحديات اقتصادية مهولة، بسبب شح الموارد وأزمة المياه المتأصلة، والزيادة الكبيرة في معدلات النمو السكاني، إلى جانب تفشي الفساد والمحسوبية، قبل أن تضيف الحرب التي سببها الانقلاب دماراً للبنى التحتية، وما تبقى من الاقتصاد الوطني المتهالك أساساً، مضافاً إليها الشرخ الاجتماعي الخطير. لقد أنهكت الصراعات اليمنيين عبر مراحل تاريخيه متعددة، بسبب التطلعات غير المشروعة أو غير المنطقية، إما لأن بعض مكوناته تحولت إلى أدوات للقوى المتصارعة إقليمياً ودولياً، وربطت مصيرها ومصير البلاد بتلك القوى والمحاور، أو لأن فئة أرادت التغلب على بقية الفئات وحكم البلاد أو جزء منها بالقوة.
ما يحتاجه اليمنيون اليوم هو السلام والتعايش وحشد القوى الاجتماعية والموارد الاقتصادية، بدعم ومساندة أشقائه والعالم، لإعادة بناء ما دمرته الحرب، ومواجهة الفقر والبطالة، وتحقيق تنمية حقيقية، وطي صفحة الصراع إلى غير رجعة، واعتماد الحوار وسيلة وحيدة لإدارة الخلافات والتباينات، فمن حق اليمنيين أن يعيشوا بسلام، وأن تتوفر لهم فرص كريمة للعيش، وتعليم يواكب العصر، وخدمات طبية جيدة.
وبوابة السلام هي الاحتكام للعقد الاجتماعي الذي ارتضاه اليمنيون، والالتزام بقواعد اللعبة الديمقراطية، وتجريم اللجوء للسلاح أو استخدامه، ونبذ الطائفية والمذهبية، والتعايش على قاعدة المواطنة المتساوية، والاحتكام لصناديق الاقتراع، كوسيلة وحيدة للوصول إلى الحكم وإدارة الخلافات.