كان محمد عبد الله شنينة (60 عاماً) ينعم بالهدوء والسلام مع أسرته وجيرانه سكان قرية المدمّن التابعة لمديرية التحيتا جنوبي محافظة الحديدة، وفي أحد صباحات أيام مايو 2018 صحت القرية على جلبة وصرخات لم تعهدها، كان مسلحو الحوثي وصلوا وشرعوا في إطلاق الرصاص الحي على كل من يصادفهم، بما في ذلك الأبقار والأغنام، ثروة أهل القرية ومصدر رزقهم الوحيد.
وفي تصريحها لـ«البيان»، تشرح زوجة محمد شنينة، آسيا أحمد قليصي، ما حدث لها ولأسرتها بالتفصيل، تتدحرج الكلمات في صدرها المنهك، وهي تصف منظر الوحوش البشرية المدججة بالسلاح عند اقتحام قريتهم، حيث كانوا قد وجهوا لهم إنذاراً بالرحيل عن القرية لكنهم تمسكوا بحقهم في البقاء في بيوتهم المتواضعة، وكان الثمن هجوماً شرساً عليهم في منتصف شهر رمضان، وتضيف آسيا: «كنا صائمين وكانت الحرب تدور حوالينا، وظننا أن الحوثيين غادروا بعد تقدم المقاومة إلى مناطق خلف قريتنا، لكن كان قد تبقى طريق وحيد تعبر منه ميليشيا الحوثي إلى منطقتنا، ولأنها تكثر فيها مزارع النخل كانوا مستميتين عليها، ولذلك عندما رؤوا رفضنا أوامرهم بترك القرية، مثل بقية السكان الذين امتثلوا لأوامرهم وغادروا، قرروا قتلنا جميعاً أو تهجيرنا بالقوة، كانوا يطلقون الرصاص علينا بكثافة مثل المطر، ويصرخون قائلين: ارحلوا ارحلوا.. ماذا تنتظرون. وكنا نبكي ونحتمي بالجدران ونترجاهم أن يرحمونا، وأن يوقفوا إطلاق النار، ثم توقفوا قليلاً فخرجنا رافعين أيدينا، إذ لا أحد يملك قطعة سلاح في القرية».
وأضافت: «قال يوسف، وهو الأخ الشقيق لزوجي ويبلغ 30 عاماً، وله طفلان، لن نرحل من دون البقرة، وأسرع نحو زريبتها ليخرجها، لكن الحوثي لم يمهله حتى يصل، رفع بندقيته وأطلق عليه زخة رصاص اخترقت ظهره وخرجت من صدره، التفت إلينا بنظرة أخيرة وسقط على الأرض، أما أحمد وهو الأخ الأصغر لزوجي فكان يبلغ من العمر 25 عاماً، وكان قد خرج من بيت جيراننا وهرع نحو أخيه القتيل يصرخ ويحاول انتشاله، ومرة أخرى نشاهد بندقية ترفع وطلقات تخترق رأس أحمد وتلقيه على ظهره قتيلاً بجوار أخيه، كانت أرجلنا قد خذلتنا وخارت قوانا من الخوف فلم نستطع الهرب، بل انتظرنا المصير نفسه، صرخ زوجي ورمى بنفسه فوق أخويه القتيلين، وهذه المرة لم يقتلوه، بل قتلوا البقرة ومضوا وهم يتوعدون إن حل الظهر ونحن في بيتنا فلن يبقَ أحد حياً، أخذنا الجثتين وغادرنا القرية من دون أن نحمل معنا حتى شربة ماء، استقللنا سيارة أحد جيراننا ومضينا، وما هي إلا مسافة بسيطة نقطعها حتى كان لغم حوثي انفجر بأحد إطارات السيارة وقذف بنا خارجها، نهض الجميع من بين الغبار وكانوا جميعاً بخير لم يصابوا إلا أنا فقد أصبت في صدري وساقي، فحملوني مع الجثتين وواصلنا السير عدة كيلومترات ونحن نترقب الموت يطلع لنا في أي لحظة، فالطرقات مُلئت بالألغام والمزارع بالمسلحين، وفي منتصف الطريق قابلنا دورية للمقاومة فحملونا إلى مدينة الخوخة، حيث دفن الشهيدان وتلقيت أنا العلاج في المستشفى الميداني، أما زوجي فقد نقل مع بناته الأربع إلى مخيم النازحين ومنذ تلك اللحظة وهو لا ينطق بكلمة واحدة، لكنه يبكي بحرقة بين الحين والآخر مردداً اسميّ أخويه: أحمد، يوسف... أحمد، يوسف».
صمت طويل ونظرات ذهول متواصلة كانت إجابة رب الأسرة محمد شنينة، وكان الحزن المستقر بثبات على ملامح وجهه ينبئ عن موقف مهول تعرض له فجأة ومن دون مقدمات، وكانت عيناه تحكي عن توقف الزمن لديه عند تلك اللحظة الفاجعة، لحظة إعدام أخويه يوسف وأحمد، ولم يكن هو الوحيد من فقد عقله، إذ لمحت فتاة تجلس بجوار خيمتهم كانت تلك فاطمة (17 عاماً) وهي الابنة الثانية لمحمد شنينة، تهرب من الكاميرا بذعر شديد كما لو أنها بندقية توجه نحوها، إذ كان آخر عهد لها بالعقل والصحة النفسية عندما وجه مسلح حوثي سلاحه إليها وراح يطلق النار بين قدميها وبجوارها وفوق رأسها، كان يتسلى بتعذيبها وإرعابها حتى أفقدها صوابها، بل أفقدها حياتها الطبيعية التي اعتادت أن تحياها قبل اعتدائه السافر على قريتها وأهلها.