وسط كل الأهوال التي جسدها العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة، فإن هدف اسرائيل هو هدف بسيط: الهدوء مقابل الهدوء، والعودة إلى الوضع الطبيعي.
والطبيعي في الضفة الغربية بالنسبة لإسرائيل هو أن تواصل بناءها غير القانوني في المستوطنات، وتأسيسها للبنية التحتية، حتى تتمكن من الاندماج مع دولة إسرائيل، مهما كانت تكلفة ذلك، وفي الوقت نفسه حصرُ الفلسطينيين في كانتونات غير قابلة للحياة، وتعريضهم للقمع والعنف.
أما الوضع الطبيعي في غزة بالنسبة لإسرائيل، فهو حياة بائسة للغزيين، تحت حصار قاس ومدمر تديره اسرائيل، بشكل يسمح لهم بالبقاء على قيد الحياة في حده الأدنى، ولا شيء أكثر من ذلك.
ادعاء إسرائيلي
وتم إطلاق العدوان الوحشي الإسرائيلي الأخير هذا بدعوى قتل ثلاثة شبان إسرائيليين من المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة. وقبل شهر، قُتل طفلان فلسطينيان رميا بالرصاص في مدينة رام الله بالضفة الغربية. إلا أن ذلك الأمر أثار اهتماما قليلا، وهذا أمر مفهوم، نظرا لأن القتل الإسرائيلي للفلسطينيين أصبح أمرا روتينيا.
«إن التجاهل المُمنهج لطبيعة حياة الفلسطينيين في الغرب يساعد على تفسير أمور كثيرة تتعدى تفسير الإجابة المتعلقة بسؤال : لماذا لا يلجأ الفلسطينيون إلى العنف»، وذلك بحسب ما تشير اليه تقارير محلل شؤون الشرق الاوسط معين رباني.
وفي يناير 2006، ارتكب الفلسطينيون جريمة كبرى من المنظور الغربي، وهي أنهم صوتوا بطريقة خاطئة في انتخابات حرة رصدت بعناية، مُسلمينَ حركة حماس السلطة البرلمانية. وفي مقابل ذلك، إسرائيل مُكرسة لتدمير فلسطين، وذلك بصرف النظر عن بعض الأقوال الأخرى، التي لا معنى لها في هذا السياق، والتي تطلق في بعض الأحيان، وهي تنفذُ ذلك الالتزام بالفعل.
عقاب جماعي للفلسطينيين
وجريمة الفلسطينيين، التي اقترفوها في يناير عام 2006، تمت معاقبتهم عليها في آن واحد. فالولايات المتحدة وإسرائيل، مدعومتان من أوروبا بشكل مخز، فرضتا عقوبات قاسية على السكان «المذنبين»، وصعدت إسرائيل من عنفها تجاههم.
وبادرت الولايات المتحدة وإسرائيل سريعا بوضع خطط لانقلاب عسكري يطيح بالحكومة المُنتخبة. وعندما تجرأت حماس على إحباط تلك الخطط، أصبحت الاعتداءات الإسرائيلية والحصار أشد وطأة. ولا حاجة لاستعراض سجل إسرائيل الإجرامي منذ ذلك الحين، مرة أخرى.
فالحصار الذي لا هوادة فيه، والهجمات الوحشية، المُتمثلة في سلسلة حلقات تطبيق نظرية «جز العشب»، تدلل إذا ما استخدمنا التعبير الإسرائيلي، على تجاربها الدورية بإطلاق النار على الأسماك في البركة، وذلك كجزء مما تسميه «حرب الدفاع عن النفس».
وفي حال تم «جز العشب»، وسعى السكان اليائسون إلى إعادة بناء أنفسهم جراء الدمار والقتل الذي حل بهم، فإنه سيكون هناك اتفاق لوقف إطلاق النار. وتم الاتفاق على آخر وقف لإطلاق النار بعد الهجوم الاسرائيلي في اكتوبر 2012، تحت عملية حملت عنوان «عامود السحاب».
وعلى الرغم من أن إسرائيل أبقت على حصارها لغزة، حافظت حماس على وقف إطلاق النار، وذلك بحسب اعتراف إسرائيل.
وتغيرت الأمور في إبريل الماضي، عندما شكلت كل من حركتي فتح وحماس اتفاق وحدة وطنية، تأسست بموجبه حكومة تكنوقراط جديدة، لا تنتمي إلى أي طرف منهما. بالطبع كانت إسرائيل غاضبة من حكومة الوحدة الوطنية، وغضبت أكثر عندما انضمت إدارة أوباما للغرب في إشارة إلى موافقتها على خطوة الوحدة الفلسطينية.
فاتفاق الوحدة لا يضرب الادعاء الإسرائيلي بأنها لا تستطيع التفاوض مع فلسطين منقسمة بعرض الحائط فقط، بل يهدد أيضا هدفا طويل المدى تسعى فيه إسرائيل إلى فصل غزة عن الضفة الغربية، ومواصلة سياساتها التدميرية في كلتا المنطقتين.
وعليه كان لا بد لإسرائيل من فعل شيء ما، وانبثقت مناسبة لذلك في 12 من يونيو الماضي، عندما قُتل المستوطنون الإسرائيليون الثلاثة في الضفة الغربية. وعلمت حكومة نتنياهو منذ وقت مبكر بموتهم، إلا أنها ادعت بغير ذلك، وهو الأمر الذي قدم لها فرصة لاجتياح الضفة الغربية، لاستهداف حماس.
وفي ظل ذلك يجدر التساؤل: هل يمكن أن تتغير سياسة الولايات المتحدة إزاء إسرائيل؟ إن هذا ليس بالأمر المستحيل، والرأي العام الأميركي قد تغير بشكل يُعتد به في السنوات الأخيرة وخاصة في صفوف الشباب، وهذا أمر لا يمكن تجاهله كلية. وعلى امتداد بعض السنين كان هناك أساس جيد لمطالبات الرأي العام بأن تلتزم أميركا بقوانينها وتقطع المساعدة العسكرية الأميركية عن إسرائيل.
وينص القانون الأميركي على أنه« لا يجوز تقديم أي مساعدة أمنية إلى أي بلد تنخرط حكومته في نمط دائب من الانتهاكات البالغة لحقوق الانسان المعترف بها دوليا». ومن المؤكد أن إسرائيل مذنبة بهذا النمط الدائب من الانتهاك، وقد كانت كذلك على امتداد سنوات طويلة.
إجماع
استشهد تشومسكي في مقاله بمقابلة أجريت مع محامي حقوق الإنسان راجي الصوراني الذي بقي في غزة خلال سنوات الوحشية الإسرائيلية والإرهاب قال فيها: «الجملة الأكثر شيوعا التي سمعتُها عندما بدأ الناس الخوض في حديث وقف إطلاق النار هي- الجميع يقول إنه من الأفضل بالنسبة لنا الموت على العودة إلى الوضع الذي كنا فيه قبل هذه الحرب، ونحن لا نريد ذلك مرة أخرى. فلم تكن لدينا كرامة، ولا مجد، نحن أهداف سهلة فقط، وثمننا رخيص جدا.
فإما أن يعدل هذا الوضع حقا، وإلا فمن الأفضل أن نموت. أنا أتحدث عن المثقفين والأكاديميين والناس الـــــعاديين، فالجـــميع يقول ذلك».