لمشاهدة الجرافيك بالحجم الطبيعي اضغط هنا
تثير مصادر تمويل «داعش»، أكثر التنظيمات الإرهابية ثراء في العالم، علامات استفهام عدة. فمن أين يحصل التنظيم على الأموال ليعلن ميزانية بملياري دولار لـ 2015 بفائض 250 مليون دولار؟ وكيف يجمع تمويلات بعشرات ملايين الدولارات شهرياً؟.
الحصول على معلومات دقيقة حول التمويل، لاسيما بالأرقام، أمر صعب، لكن اللافت هو تعدد مصادره التي يحصل عليها من نهب موارد شعبين منكوبين في سوريا والعراق.
صفقات النفط
ويعتبر النفط أكبر مصدر لإيرادات التنظيم، يؤمّن أكثر من مليوني دولار يوميا في السوق السوداء، تُدفع نقدا أو في صورة عينية. وتعتبر تركيا، ممر تدفق الإرهابيين إلى سوريا والعراق، أكثر المتورطين في ذلك، حيث يمر النفط عبر طريق غرب مدينة جرابلس من قرية «عرب عزة» مدخل نهر الساجور إلى الحدود السورية التركية، وعبر منطقتي تل أبيض وسلوك الحدوديتين، اللتين توجد فيهما العديد من مصافي التكرير والأنابيب الضخمة لتهريب النفط.
وتقدّر الطاقة الإنتاجية لحقول النفط العراقية التي وقعت تحت سيطرة التنظيم بـ 80 ألف برميل يوميا، والذي سيطر أيضا على 90 في المائة من حقول النفط السورية، التي كانت تنتج قبل الحرب الأهلية 385 ألف برميل في اليوم. وتشير التقديرات إلى موارد تتراوح بين 1.2 إلى 3 ملايين دولار يوميا في سوريا، إذ أكد رئيس مجموعة اقتصاد سوريا أسامة قاضي أن «الإمكانات النفطية لداعش لم تختلف مع بدء توجيه التحالف ضربات ضد مواقع التنظيم».
تورط الأسد
المثير للريبة هنا تورط أنظمة ودول في عمليات تهريب وبيع النفط التي يقوم بها التنظيم. فإلى جانب تركيا، تشير الدلائل أيضا إلى ضلوع النظام السوري في ذلك، حيث فرض الاتحاد الأوروبي في مارس الماضي الحظر على رجل الأعمال السوري جورج حسواني، المقرب من بشار الأسد، لقيامه بدور الوسيط في صفقات النظام التي يبرمها لشراء النفط من «داعش»، والتي تنص على حماية التنظيم الحقول وتأمين وصول المواد الخام إلى مصافي النظام، فيما يقوم الأخير بتأمين الصيانة والمهندسين لإدارتها، على أن تقسم الأرباح إلى قسمين: 60 في المائة للنظام و40 في المائة لـ «داعش».
الآثار والبنوك
ثاني أهم مصادر التمويل هو بيع الآثار المسروقة، الذي تدخل فيه دول ومافيات، ويعكس إعلان «داعش» تأسيس «وزارة» للآثار لتنظيم عمليات النهب وجني الأرباح ضخامة وأهمية هذا المصدر في تمويله.
وذكرت أجهزة الاستخبارات الأميركية أن الأقمار الصناعية رصدت أكثر من ألف موقع أثري تم نهبه على يد عصابات «داعش» قبل تدمير تلك المواقع بالكامل، فيما قدّرت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونيسكو» القيمة السوقية للقطع الأثرية المباعة بأكثر من عشرة مليارات دولار، بينما يشير خبراء إلى أن الأرقام تفوق ذلك بكثير.
وتقول مديرة منظمة البحث العلمي للجرائم المُرتكبة ضد الفن ليندا ألبيرتسون إن المسروقات المنهوبة من المتاحف تعبر طريق التهريب نحو تركيا ودول البلقان في أوروبا الشرقية ومنها إلى أوروبا الغربية، وأيضا الولايات المتحدة وبريطانيا، وهما أكبر سوق تجاري للآثار المنهوبة من الشرق الأوسط.
ضرائب وجزية
كذلك، هناك أموال «الزكاة» المفروضة على التجار بقيمة أربعة في المائة من الممتلكات ومن محاصيل القمح والشعير في العراق، فيما قدّرت قيمتها في مدينة الرقة السورية بـ 10 في المائة من قيمة الدخل، إلى جانب فرض الجزية على المسيحيين، والتي وصلت في العراق إلى 850 ألف دولار شهريا، وفرض ضرائب على مؤسسات وسكان المدن المزدحمة بلغت 11 مليون دولار شهريا في محافظة نينوى وحدها، وتحديدا مركزها مدينة الموصل.
وبحسب تقرير للجنة التحقيق البرلمانية العراقية، فإن عناصر التنظيم باتوا «مافيات تدير جريمة منظمة»، يسيطرون على كل موارد نينوى الاقتصادية ويتحكمون بها، بعدما أوجدوا نظاما محددا لجباية الأموال، وفرضوا تعرفة معينة على مختلف الفئات الاجتماعية.
وأورد التقرير سلسلة أمثلة عن الضرائب، منها أن متعهد نقل المشتقات النفطية من مصفى بيجي إلى محافظة نينوى كان يدفع لـ «داعش» مليون دولار شهريا، إضافة إلى مبلغ مماثل من متعهدي الأسمنت.
وتحدث التقرير عن 300 عقد وهمي لعمال متعاقدين مع بلدية الموصل، يبلغ مجموع رواتبهم الشهرية 75 مليون دينار عراقي (نحو 62 ألف دولار)، كانت تؤول كلها إلى التنظيم.
وقال عضو مجلس المحافظة زهير الجلبي إن كلا من أصحاب المولدات الكهربائية في نينوى، البالغ عددها 1400، يدفع 200 دولار على الأقل شهريا للتنظيم، وأن آلاف الأطباء كانوا يدفعون 300 دولار على الأقل. وأضاف: «الكل كان يدفع لداعش، حتى بائع الخضروات».
ولتسهيل عملياته غير المشروعة في سوريا، حوّل التنظيم بنك التسليف في الرقة إلى سلطة تتولى الأعمال الضريبية، مع دفع أصحاب المتاجر مبلغاً شهرياً مقابل استخدام المرافق والحماية.
كما يعتمد التنظيم على المخالفات المرورية، والشرعية التي حولها إلى مالية، كفرض ثلاثة آلاف ليرة سورية غرامة على اللباس غير الشرعي. إلى جانب سرقة البنوك ومحلات المجوهرات والسيارات التي تدر عليه أموالا طائلة، حيث نهب التنظيم من بنك الموصل وحده 430 مليون دولار.
الأراضي والوقود
ويستفيد «داعش» من عائدات حركة النقل البري والتهريب. وتعتبر نقاط التفتيش عبر الحدود بين العراق وسوريا بالإضافة إلى طرق التجارة الرئيسية في المناطق الخاضعة لسيطرته نقاطاً مهمة لفرض الضريبة على التجار. وقد أظهرت وثائق خاصة بالتنظيم وجود 30 نقطة تفتيش في العراق وحدها خلال العام الماضي.
بالإضافة إلى بيع وتأجير الأراضي والعقارات العامة والخاصة، ومنها تأجير ساحة وسط مدينة البوكمال السورية كانت مخفرا وكنيسة بـثلاثة آلاف دولار شهرياً، والسيطرة على المخازن والموارد الحيوية، يضاف إلى ذلك مبيعات الكهرباء والإنترنت في العراق وسوريا، حيث يبيع الغاز والوقود والكهرباء بصفقات سرية إلى نظام الأسد عبر السدود التي تقع تحت سيطرته. وتفيد معلومات بأن النظام يشتري مادة المازوت من التنظيم بـ 55 ليرة سورية ليبيعها للمواطن السوري بـ 125 ليرة.
فيما ذكر تقرير لمجلة «دير شبيغل» الألمانية أن جزءاً من تمويل التنظيم يأتي من سيطرته على مصادر الغذاء والماء، حيث يبيع الماء والمزروعات كالقمح الذي استولى على أكثر من 50 ألف طن منه في العراق بطرقٍ غير مشروعة إما لسكان المناطق الخاضعة لسيطرته أو لجهات أخرى.
وبحسب التقرير، نقل التنظيم أكثر من 700 طن من الحبوب من غرب العراق إلى سوريا لطحنها وتكريرها، ثم أعاد بيعها إلى الحكومة العراقية عبر طرف ثالث. كما وسّع التنظيم نشاطه مؤخراً للانخراط في صناعة الدقيق معتمدا على الحبوب التي نهبها من المطاحن الحكومية في الموصل.
الاتجار بالبشر
ويبقى الخطف والابتزاز أكثر المصادر ربحا لـ «داعش»، الذي جنى 20 مليون دولار من الفديات في 2014 و45 مليون دولار في 2013. فيما طلب 200 مليون دولار مقابل إطلاق رهينتين يابانيتين، تم إعدامهما في وقت لاحق، لذا تقدّر أوساط مراقبة تجاوز قيمة الفديات هذا المبلغ بكثير، مستندة إلى بعض صفقات إطلاق سراح الرهائن الضخمة والسرية.
ويقول عضو اللجنة الأمنية في مجلس محافظة بغداد سعد المطلبي إن التنظيم كثّف من عمليات الخطف في العراق لتعويض خسائره بعد فقدانه السيطرة على مصفاة بيجي النفطية.
ويوضح المطلبي أنه بعد انقطاع أهم مصادر تمويل «داعش»، بدأ يوظف خلايا مختصة بالخطف لتمويل خلاياه النائمة، التي مهمتها التفجير والإرهاب وغيرها.
هذا فضلا عن تجارة الرقيق التي تدر أموالا طائلة، حيث أسس سوقا لـ «بيع السبايا والعبيد» في منطقة القدس بالموصل وآخر في الرقة، يتم فيه تداول النساء والأطفال كسلع يعتمد سعرها على عدة مقومات يحددها التنظيم، فمثلا تباع الطفلة التي يقل عمرها عن تسعة أعوام بـ 165 دولاراً، فيما يباع الطفل بعشرة دولارات فقط.
ولا تخلو تلك التجارة أيضا من الاتجار بالأعضاء البشرية لأسرى التنظيم. وبحسب صحيفة «لاراثون» الإسبانية، فإن هذه التجارة تشكل خط تمويل حيوي لـ «داعش»، حيث تم الكشف عن وجود شبكة إرهابية عالمية تشتري الأعضاء البشرية منه وتقوم بزراعتها في غضون ساعات قليلة في أي مكان في العالم.
تمويل خارجي
كذلك، يستفيد التنظيم من الاتجار بالمخدرات وأموال حماية تجار الحروب الذين يبيعون الغذاء للمناطق المحاصرة بأضعاف سعرها، ولا يمكن تجاهل الدعم المالي الخارجي وغسيل الأموال، والذي يشمل دولا وأثرياء في الغرب والمنطقة.
وطبقا لتقارير أميركية، فإن قائمة الممولين للتنظيم تضم 12 شخصية عراقية، منهم ستة رجال أعمال كبار، وعشر شخصيات باكستانية، وثمانية من الجزائر، وأربعة من تركيا، وآخرون من غانا والسودان والاردن وقطر وبنغلاديش واستراليا وجزر القمر وهولندا وموريتانيا، إلى جانب قيادات في التنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
وكشف التحقيقات الإيطالية في قضية تحويلات غير شرعية تمت من خلال بنك التقوى التابع للتنظيم المحظور، الذي أنشئ في العام 1988 وترأسه مفوض العلاقات الدولية السابق للإخوان يوسف ندا، تمويل التنظيم للعديد من المنظمات الإرهابية، وعلى رأسها «داعش» حيث دخل معه على خط تهريب النفط أيضا.
مرونة شديدة
المثير للقلق أن «داعش» لا يعتمد على النظام المالي العالمي، ومن ثم فهو ليس معرض لخطر العقوبات وقوانين مكافحة غسيل الأموال واللوائح المصرفية، إذ إنه أعلن صكّ عملته الجديدة «الدينار الذهبي» التي ينوي طرحها في المناطق الخاضعة لسيطرته، ما ينذر بأنه سيبقى شديد المرونة، وسيستغرق القضاء عليه وقتاً طويلاً.
وفي محاولة لمحاصرته مالياً، دعا موقع «بيزنس إنسايدر» الأميركي إلى عزل البنوك في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم في العراق وسوريا، حيث يوجد نحو تسعة فروع لبنوك دولية. إلا أن «داعش» لا يزال قادرا على تلقي تمويل من خارج المناطق التي يسيطر عليها، بصورة فردية يصعب مراقبتها والتحكم فيها.
ووفقا للشرطة الفنلندية، يعتمد التنظيم على مصارف غير رسمية لتحويل واستقبال الأموال، وذلك عبر أشخاص يمتلكون وكالات عمالة على حدود المناطق التي يسيطر عليها.
فيما يقول مدير برنامج «شتاين» لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى ماثيو ليفت إن هذه المعاملات تتم بشكل منسق تماماً، من خلال إيداعات كبيرة في حسابات في الولايات المتحدة، تتبعها سحوبات مباشرة من بطاقات الصراف الآلي في مناطق قريبة من المناطق الواقعة تحت سيطرة «داعش».
كما أكد المعهد أن التنظيم يدير معاملاته المصرفية في النظام المالي الدولي سرا، عبر أشخاص مجهولين، لا يعرف أحد صلاتهم به، موضحا أن ذلك يمكّنه من سحب وتحويل الأموال عبر أكبر المؤسسات البنكية حول العالم، دون علم من المسؤولين عنها.
ومع النجاح النسبي لعزل «داعش» عن البنوك العالمية في العراق، إلا أن نظام الأسد لا يسمح للمصارف في سوريا بمواصلة عملها وتقديم الخدمات في فروعها إلا في المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، بما يخدم مصالحه التجارية معه. فيما ذكر تقرير دولي أن اكثر من عشرين مؤسسة مالية سورية لديها تعاملات يومية في المناطق التي يسيطر عليها «داعش».
إدارة لامركزية
ويبقى التساؤل حول قدرات التنظيم على إدارة موارده المالية الضخمة، التي تفوق ميزانية دول صغرى. وكيف يفلت من مصائد غسيل الأموال أو ودعم الجماعات الإرهابية؟.
يسيطر أمير التنظيم أبوبكر البغدادي على أرفع المناصب الإدارية والوظيفية لـ «داعش»، ويبدو أن أجهزة مخابرات محترفة تشرف على تحويل الأموال، كما يستعين التنظيم بشخصيات وقيادات معظمها بعثية عراقية تمتلك خبرات متعددة لإدارة أمواله.
ونشرت صحيفة «ديلي تلغراف» البريطانية تقريرا عن كيفية إدارة «الدولة» التي أعلنها «داعش»، وقارن التقرير بين النظام المركزي الذي اعتمده زعيم تنظيم القاعدة في العراق الراحل أبو مصعب الزرقاوي، وبين النظام اللامركزي الذي يعتمده البغدادي.
وأوضحت الصحيفة أن البغدادي يدير المناطق التي يسيطر عليها من خلال مجموعة من المساعدين، يعملون كحكومة كاملة تعمل على جبهتين، الأولى هي جبهة العمليات العسكرية، في كل من سوريا والعراق، والثانية الشؤون اليومية للسكان في المناطق التي يسيطر عليها «داعش». فيما يقول المتخصص في الحركات الإسلامية قاسم قصير إن البغدادي استلهم النموذج العثماني في تعيين ولاة وتوكيلهم التعاطي مع شؤون الناس، دون أن يحكم هو مباشرة.