رويداً رويداً، اكتملت صورة الرعب والذبح في باريس مع إضافة المسؤولين وعناصر الشرطة والشهود المزيد من التفاصيل حول سلسلة الاعتداءات التي أودت بحياة أكثر من 133 شخصاً، وجرحت المئات. ادعى تنظيم «داعش» مسؤوليته عن الحادث في ظل موافقة المسؤولين، في واقع اعتداء يثير العديد من الأسئلة المتعلقة بكيفية تغير التنظيم ومدى هشاشة الولايات المتحدة وأوروبا إزاءه.

ويتمحور السؤال الأول الذي يثيره اعتداء باريس حول ما يعكسه عن تنظيم «داعش» الذي أثار اهتمام العالم بأسره مع تمدده إلى العراق من بوابة سوريا عام 2014، واستيلائه على مساحات شاسعة من البلاد.

إلا أنه برغم فظاعة خطاب «داعش» ضد الغرب، فقد اقتصر نشاطه عملياً على محاولة التحريض على ما يسمى بهجمات «الذئب الأوحد»، مع تركيز أعماله القتالية في مكان آخر. لكن إذا كان «داعش» فعلاً هو المسؤول عن اعتداء باريس، فإن ذلك يعكس رغبته في ضرب أعدائه في كل مكان.

اعتداء معقد

لا يدخل اعتداء باريس ضمن هذا السياق، على الرغم من محاولة أفراد يعملون تحت اسم «داعش» تنفيذ اعتداءات أخرى في أوروبا، فإن القليل منهم كانت تجمعه روابط حقيقية مع التنظيم.

ولايزال من المبكر القول إن الاعتداء الأخير تم التخطيط له من القيادات العليا، إلا أن طبيعته المتناسقة والمعقدة نسبياً تشير إلى ضلوع أكثر من بضعة «ذئاب وحيدين». وإن كان الأمر كذلك، فإنها المرة الأولى التي يخصص فيها «داعش» إمدادات هامة لتنفيذ اعتداء يحصد عدداً من الضحايا في أوروبا.

ويشير السؤال الثاني إلى نظرتنا لاعتداء باريس في ظل العمليات الأخرى للتنظيم، سيما أن «داعش» قد تكبد في الآونة الأخيرة خسائر ميدانية أمام القوات الكردية في سنجار. إلا أن اسمه ارتبط بالتفجيرات الانتحارية الأخيرة في بيروت، التي قتلت زهاء 40 شخصاً، إضافة إلى الاشتباه بضلوعه في إسقاط الطائرة الروسية فوق سيناء وقتل الركاب الـ224 الذين كانوا على متنها.

لكن لماذا هذه الكراهية إزاء فرنسا، وهي المعروفة منذ التسعينيات بعدائها المرير والمتمرس ضد التشدد حول العالم. إلا أن كراهية فرنسا تتجاوز براعتها في مناهضة الإرهاب، وهي اللاعب الشرس في الشرق الأوسط، صاحب التدخلات والدولة المتباهية بعلمانيتها.

وقد اتسمت سياساتها الرسمية بالعداء تجاه المظاهر الدينية كالحجاب، وانتشار المجلات التهكمية كـ«شارلي إيبدو». وقد أكسب هذا المزيج من العدائية وحرية التعبير الناقد والعلمانية فرنسا مكانة خاصة في قاموس الكراهية لدى «داعش» والمتشددين عموماً.

تكرار خطيئة اللاجئين

ويسأل البعض عن علاقة الاعتداء باللاجئين السوريين في أوروبا، سيما أن الأحزاب اليمينية تقارن دعوة اللاجئين بدعوة المجرمين إلى بيتك.

إلا أن إغلاق أبواب أوروبا سيكون خطأً فادحاً بكل المعايير، فـ «داعش» يريد انضمام المناصرين من سوريا والعراق، ويعتبر هروبهم «خطيئةً كبرى»، وهو بالتالي لا يرسلهم لأوروبا تحت قناع اللجوء. يكمن الخطر الحقيقي في عدم إيلاء اللاجئين الاهتمام، أو الترحيب بقدومهم للحظة كتعبير عن التعاطف معهم، ومن ثم قمعهم والتعامل معهم بازدراء. ويحوّل هذا التصرف اللاجئين من مأساة إنسانية إلى تهديد للأمن.

وتعقيباً على ما سبق يتبادر إلى الذهن السؤال، أخيراً، عما إذا كانت أميركا الهدف التالي. عادةً ما لا يندرج اختيار الإرهابيين لهدف ضربتهم التالية ضمن لعبة الحمقى، فهم يتقيدون بمخططات كبرى بالتوازي مع وصوليتهم، ويعتمد الكثير من قراراتهم على مهارات الاستخبارات وعناصر الشرطة المعادية.

استثمرت أميركا بقوة في مجال مناهضة الإرهاب، سيما «داعش»، على غرار فرنسا، إلا أن المعرفة والاستعدادات ليست كفيلة وحدها بإيجاد الحل، ومسلمو فرنسا مختلفون عن مسلمي أميركا من حيث العداء للحكومة تاريخياً بما لا يجيز المقارنة.

لابد من توخي الحذر، فالأحكام والتحليلات الواردة عرضةً للتغيير الحتمي مع تكشف المزيد من التفاصيل، لكننا نحتاج لبدء تعلم المزيد من الدروس من باريس، بينما نفكر في كيفية مواجهة هذا التهديد القاتل والمتصاعد.