بعد أكثر من نصف قرن على استقلال الجزائر ورحيل المستعمر الفرنسي، وهي المناسبة التي صادفت الخامس من يوليو الماضي، يطالب فرنسيون ممن كانوا مستوطنين تحت عباءة وحماية جيش المستعمر بما يسمونها أملاكاً وحقوقاً في الجزائر. هؤلاء الذين يطلق عليهم «الأقدام السوداء» حوّلوا مطالبهم إلى القضاء، الأمر الذي فجر خلافاً بين الجزائر وباريس، في ظل رفض الجزائر هذه الدعاوى القضائية، باعتبار أن استرجاع السلطات الجزائرية هذه الممتلكات «أمراً شرعياً»، كما نصت اتفاقيات «إيفيان» لإنهاء الاحتلال الفرنسي في الجزائر، والموقّعة بين الحكومة الجزائرية المؤقتة ونظيرتها الفرنسية في 18 مارس 1962 على اختيار «الأقدام السوداء» خلال ثلاث سنوات بين نيل الجنسية الجزائرية أو الاحتفاظ بالفرنسية واعتبارهم أجانب.

وأقام أصحاب «الأقدام السوداء» عشرات القضايا أمام المحاكم الجزائرية، للمطالبة بطرد عائلات جزائرية من منازلها، وتسليم هذه البيوت لهم، بحجة أنهم يحوزون وثائق تثبت عقود الملكية. ولطالما كان ملف «الأقدام السوداء» من التابوهات التاريخية في الجزائر، لمشاركة هذه الفئة في جرائم التعذيب والقمع والاستغلال التي ارتكبها الاستعمار (1830 - 1962)، من خلال تعاونهم مع السلطات الفرنسية في تلك الفترة في مواجهة الجزائريين.

التطور اللافت أن مجموعة من «الأقدام السوداء» أعلنت عزمها الشروع في تأسيس دولة على أرض الجزائر، وشرعوا في مراسلة السلطات الجزائرية والفرنسية. وذكرت صحيفة «ميدي ليبر» الفرنسية قبل بضعة أسابيع أن المجموعة شكلت ما وصفته بحكومة في المنفى تتكون من 13 وزيراً، يرأسها بيار غرانيس الذي أعلن عن تشكيل حكومة وبرلمان.

رفض جزائري

الحكومة الجزائرية رفضت مراراً محاولات «الأقدام السوداء» للحصول على تعويضات، لأنها لم تطردهم بل كان رحيلهم طوعياً، حيث غادر الآلاف منهم الجزائر بعد استفتاء تقرير المصير الذي أجري في 3 يوليو 1962، الذي استعادت الجزائر بموجبه سيادتها بعد ثورة «المليون شهيد».

وسبق للحكومة الفرنسية أن عوّضت مَن فقدوا «أملاكهم» على دفعتين، عندما غادر معظمهم البلاد يوم استقلال الجزائر، ثم عند صدور مرسوم تأميم الأراضي الزراعية في 20 مارس 1963. وصدرت في وقت لاحق ثلاثة قوانين لتعويضهم في عهد الرؤساء جورج بومبيدو (1970)، وفاليري جيسكار ديستان (1974)، وفرنسوا ميتيران (1987). كذلك أصدر الرئيس الجزائري أحمد بن بلة في 1 أكتوبر 1963 مرسوماً خاصاً بتأميم آخر ممتلكات المستعمرين.

السلطات الجزائرية تتجنب إعطاء رأيها في ملف «الأقدام السود» بسبب حساسيته داخل منظمات ثورية وجمعيات أبناء المحاربين الجزائريين والشهداء، لكنها لا تمنع في الوقت ذاته زيارة الأشخاص المعنيين بهذه التسمية للجزائر.

أخيراً، تفجر جدل حاد بالجزائر، بسبب دعوة رئيس الوزراء أحمد أويحيى، لرجال الأعمال بالاعتماد على «المستوطنين الفرنسيين» وأبناء الجزائريين المتهمين بالخيانة زمن حرب التحرير ضد الاستعمار الفرنسي (1954-1962)، حيث اعتبر أويحيى ذلك خطة لتسويق المنتجات الجزائرية في الخارج. واعتبرت المنظمة الجزائرية للمجاهدين (قدماء المحاربين)، هذا الموقف مساساً بكرامة الشعب الجزائري ومكاسب الأمة إضافة إلى النيل من قيم الثورة التحريرية 1954. وذكّرت المنظمة في بيان، بالجرائم التي اقترفتها «الأقدام السوداء» في حق الشعب الجزائري طوال فترة الاحتلال الفرنسي (132 سنة). ودعت إلى عدم تناسي «ما ألحقته الأقدام السوداء والمستعمرون من مآس بالشعب طوال الحقبة الاستعمارية، وعلى وجه الخصوص في أواخر الثورة من تشكيل عصابات سرية إرهابية ارتكبت أبشع الجرائم وعاثت في البلاد فساداً وتقتيلاً وتخريباً».

تسجيل ملكيّة

ويرى سياسيون واقتصاديون في الجزائر، أن ما سهّل مطالبة «الأقدام السوداء» بممتلكاتهم السابقة في سنوات المستعمر الفرنسي، هو عدم تسجيل هذه الممتلكات باسم مالكيها الجزائريين من بعض الإدارات في مختلف الولايات، على رغم أن القانون كان يلزمهم بنقل الملكية بعد ترك هذه المنازل من الفرنسيين عقب الاستقلال، فالـعاصمة الجزائر وحدها يوجد بها نحو 6 آلاف منزل كان يقطنها «الأقـدام السوداء»، وقد تصبح محل خلاف، وهذا الوضع هو ما دفع «الأقدام السوداء» إلى تشكيل جمعية بالتعاون مع أطراف داخلية، مستغلين عدم تقييد هذه الممتلكات. لكن الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان لا تحصر القضـية في مجرد خلاف بين الجزائر والمستعمر القديم.

وسبق لمدير أملاك الدولة في الجزائر، محمد حيمور، أن قدّر عدد ممتلكات «الأقدام السوداء» بنحو 180 ألف عقار، متسائلاً: «ماذا يريد هؤلاء؟ هل نطرد الجزائريين الذين يسكنون هذه المنازل ويدفعون الضرائب منذ 40 سنة لنعيد منحهم إياها؟ وإن كانوا يملكون أدلة بأن هذه العقارات من حقهم فليتقدموا بها، فالدولة عندنا لا تظلم أحداً». وقال: إن الكثير من «الأقدام السوداء» لجأت إلى القضاء لاسترجاع ما تسميه بـ«حقها في السكنات والعقارات»، إلا أن المحاكم فصلت في مجمل هذه القضايا لمصلحتنا، وأن عدداً كبيراً منها حُكم فيها بعدم التأسيس، ولا أعرف كيف يغادرون الجزائر من دون إبلاغ السلطات، أو الإشعار بالشغور، ويتركون السكنات فارغة، ثم يعودون ليقولوا إنهم يرغبون في استرجاع «حقوقهم».

مخاوف من التطبيع

وعبّرت شخصيات جزائرية، سياسية ووطنية وتاريخية، عن رفضها الاعتماد على «الأقدام السوداء» من خلال البوابة الاقتصادية، كونها «محاولة للقفز على ملفات الذاكرة العالقة بين البلدين وتناسي الماضي الاستعماري». واعتبرت أن «دعوة الأقدام السوداء لمساعدة المصدرين الجزائريين في اختراق الأسواق العالمية سيقوي شوكة هؤلاء الذين يطالبون منذ عشرات السنين بممتلكاتهم المزعومة في الجزائر وحقهم في العودة إلى بلادنا بالطرق القانونية ومن دون حرج».

ووصف رئيس الجبهة الوطنية الجزائرية، موسى تواتي تصريحات رئيس الوزراء الجزائري بـ«الخطرة». واتهم السلطات بـ «البحث عن التطبيع العلني مع (الأقدام السوداء)، بعدما ظلت العلاقات بين الطرفين خفية وغير مصرح بها بشكل علني».

تصريح وجدل

بالمقابل، أحيا تصريح رئيس الوزراء الجزائري بشأن «الأقدام السوداء»، مطالب متكررة لدفع السلطات الفرنسية للاعتراف بجرائمها البشعة. ودعت المحامية الجزائرية، فاطمة الزهراء بن براهم، حكومة بلادها إلى «ممارسة ضغوطات على فرنسا لتعويض الجزائريين عن الضرر الذي سببه الاستعمار من محاولات لطمس هويتهم ودينهم والأكثر من ذلك مصادرة حريتهم». وقالت المحامية الجزائرية، إنه «حان الوقت لنفض الغبار عن ملفات الذاكرة حتى تبقى فرنسا دائماً في قفص الاتهام أمام العالم». وعبّرت عن انزعاجها من «عدم توافر الإرادة السياسية لإرغام فرنسا على تعويض الجزائريين واختصار الذاكرة في ملف مناسباتي يعاد فتحه مع كل ذكرى تاريخية عن طريق التنديد والاستنكار فقط».

لكن السلطات الفرنسية تسعى دائماً للالتفاف على مطالب الاعتذار عن حقبتها الاستعمارية من خلال محاولة إقناع نظيرتها الجزائرية بضرورة التطلع إلى المستقبل وتعزيز علاقات التعاون بين البلدين وتحريرها من الماضي، في إشارة صريحة إلى رفضها كل دعوات الاعتراف بجرائمها وتعويض الجزائريين عنها.

وتستغل فرنسا كل حدث أو مناسبة تاريخية، لإثارة هذا الملف في منظمة الأمم المتحدة للضغط على الحكومة الجزائرية، وردّت الهيئة الدولية بلائحة تؤكد أن الجزائر سيدة على جميع ما يوجد في أراضيها، وباتت القضية للمساومة تارة من خلال تصويرهم على أنهم ضحايا عنف الثوار الجزائريين، وللابتزاز تارة أخرى عبر مطالبتهم بممتلكاتهم التي تركوها في الجزائر بعد استقلال البلاد، وانتقل الضغط إلى صفحات الكتب والجرائد، حيث وصف كتاب «65 شخصية تشهد» الصادر عن دار «هيغو وشركائه» في باريس، الجزائر بأنها الأرض الأصلية للأقدام السوداء، والتي انتزعت منهم بالقوة، ما جعل الملف يفسد العلاقة بين البلدين في عديد المرات.

وكان الاستيطان الفرنسي للجزائر على مرحلتين، عسكرية (1830 ـ 1870) ومدنية (في الشمال أساساً) (1870 ـ 1900). وتحت مظلة «أن الأراضي غير الأوروبية تُعد مناطق خالية من الحضارة، فهي ملائمة للاستعمار»، وتحوّل حُفاة وقطاع طرق وعاطلون في فرنسا وأوروبا من «خدم» إلى «أسياد» استولوا على أراضي غيرهم وحَقروا أهاليها.

في فرنسا حالياً نحو مليون ممن ينعتون بلقب «الأقدام السوداء»، نصفهم تقريباً يعيش في المقاطعات الفرنسية الجنوبية على شواطئ المتوسط، النقطة الأقرب إلى ما زالوا يعتبرونه موطنهم الأصلي.

«الأقدام السوداء» لم يطردوا من الجزائر، بل فضلوا هم الرحيل، لكنّهم يدّعون اليوم ملكيتهم في أراضٍ ومساكن جزائرية تركوها بعد استقلال البلاد في بداية الستينيات، على الرغم من أن جبهة التحرير الوطني الجزائرية (1954 ـ 1962)، كرّرت نداءاتها لهم حينها، باعتبار أن الحاجة كانت ماسة إلى جميع أبناء الجزائر مهما اختلفت أصولهم ودياناتهم لإعادة الإعمار. لكنّهم فضلوا الرحيل، بل إن تنظيمات إرهابية تابعة لبعض المدنيين الأوروبيين مثل «اليد الحمراء» و«منظمة الجيش السري OAS» قامت يوم وقف إطلاق النار في مارس 1962 بسلسة من الجرائم البشعة في حق المدنيين العرب، وتضاعفت وتيرة القتل والحرق المتعمد للمؤسسات، بينها مكتبة جامعة الجزائر.

قوة ضغط

يشكل «الأقدام السوداء» قوة ضغط لا يُستهان بها في فرنسا. وهم متغلغلون في جميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والإعلامية والفنية. ذكرنا اسم الصناعي بابالاردو، ولكن هناك أسماء أكثر شهرة كالمغني انريكو ماسياسي (وريث عائلة موسيقية في عاصمة الشرق الجزائري مدينة قسنطينة)، أو السينمائي روجيه حنين (عديل الرئيس السابق فرانسوا ميتران)، وعدد لا بأس به من الفكاهيين والكتّاب والممثلين، وبينهم نسبة كبيرة من اليهود، ما يعطي لدورهم وتأثيرهم طابعاً خاصاً.

وقد استطاعوا تحقيق لعبة الجذب السياسي ومقايضة أصواتهم الانتخابية كلّما حلت مناسبة سياسية ولم تعد مسألة الأقدام السوداء بفرنسا تتعلق بمسألة التعويضات المالية فقط بل بنظرة للتاريخ من زاوية المنظور الإيجابي.

اليسار الفرنسي، وبالضبط فرنسوا ميتيران ظل من أشد المدافعين عن «الأقدام السوداء»، حيث التزم بإعادة إدماجهم وإعلان العفو الشامل عن قدماء منظمة الجيش السري الإرهابية، بما في ذلك الجنرالات الذين شاركوا في انقلاب أبريل 1961 ضد الجنرال ديغول· بالإضافة إلى كل الإداريين المطرودين من الوظيفة الحكومية بين 1961 و1963 بتهمة الانخراط في المنظمة السرية·

وعوضت الحكومة الفرنسية من فقدوا أملاكهم على دفعتين: عندما غادر معظمهم البلاد يوم استقلال الجزائر عام 1962، ثم عند صدور مرسوم تأميم الأراضي الزراعية في 20 مارس 1963، بخاصة «المهجورة» منها. صدرت لاحقاً 3 قوانين لتعويضهم في عهد الرؤساء جورج بومبيدو (1970)، فاليري جيسكار ديستان (1974) وفرانسوا ميتيران (1987).