بعد دخوله العراق عام 2003 ابتكر الاحتلال الأميركي نظام «المحاصصة الطائفية»، بحيث تتوزع المناصب الرئاسية في حكومة البلاد بين المكونات والأطياف على أسس طائفية، ولا يزال الحكم السياسي في هذا البلد مبنيًا وفق هذا النظام الذي يرى فيه كثيرون مشكلة وليس حلًا لأزمات العراق، سيما وأنه من نتاج الاحتلال، وليس من صناعة العراقيين الذين كانوا لزمن طويل بعيدين عن وباء الطائفية السياسية.
وفي ظل إقرار العديد من السياسيين العراقيين بعدم القدرة على تجاهل هذا الإرث الاحتلالي، ينتظر العراقيون تشكيل حكومة جديدة، بعد الانتخابات التي شاركوا بها الشهر الماضي، ووسط مطالبات وأمنيات بأن يستطيع العراق، اليوم أو غدًا، الخروج من عنق زجاجة المحاصصة الطائفية، وبناء عراق المواطنة. أصوات كثيرة تعالت، ومنها لقادة كتل وأحزاب، تطالب رئيس الحكومة المكلف عادل عبدالمهدي بأن يشكّل حكومته بعيدًا عن المحاصصة الطائفية والعرقية، وهو يؤكد على ذلك.
ويعد نظام المحاصصة، السبب الأكبر وراء تأخر تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، سيّما وأن كل ائتلاف في البرلمان يسعى لأن يكون له نسبة معينة في الحكومة التي يجري تشكيلها، وهو ما يزيد حدة الانقسامات ويضع رئيس الحكومة المكلف أمام مسؤولية حساسة في الوفاء بتعهداته تشكيل حكومة عراقية غير طائفية.
أصوات عديدة في العراق تقر بأن العملية السياسية كانت دائمًا غير ناجحة، لأنها مبنية على أساس المحاصصة الطائفية، وأن التوافق على هذا الأساس لا يؤسس لتنمية أو ازدهار في العراق وأي بلد، ذلك أن النظام السياسي الذي يبني على أساس توافقي ووفق نظام المحاصصة ينتج وضعًا سياسيًا ضعيفًا غير قادر على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
التوافق السلبي
التوافق السياسي يؤثّر على نحو سلبي على مجمل أوضاع البلد ويجعل البرلمان بصفته السلطة التشريعية، غير قادر على أداء الدور الرقابي كونه لا يستطيع محاسبة أي وزير أو مسؤول بسبب انتمائه إلى حزب وكتلة طائفية تدافع عنه وعن فشله أو سلوكه، بما في ذلك الخاطئة. كما أن المحاصصة تراعي الترضية لأطرافها على حساب الكفاءات.
في هكذا أجواء، يتلقى رئيس الحكومة الجديد طلبات حزبية عديدة بترشيح أسماء محددة لحقائب وزارية، وأسماء لمواقع تنفيذية ما. لكن هذه الطلبات جرى نقلها عبر وسطاء وليس على نحو مباشر، ما يعكس حرج قادة هذه الأحزاب إزاء إمكانية اتهامها بتبني منطق المحاصصة، في ظل ارتفاع الأصوات الوازنة تطالب بتنحية منطق المحاصصة في التشكيل.
في حديث لـ«البيان» في سبتمبر الماضي، شدّد رئيس البرلمان العراقي المنتخب محمد الحلبوسي، على ضرورة القضاء على لغة المحاصصة، مؤكداً أن هذه اللغة جلبت للعراق الخراب والدمار فقط، وأن البرلمان لكل العراقيين، ولفت إلى أن مجلس النواب والحكومة العراقية يواجهان تحديات كبيرة أمنية واقتصادية. وكشف عن إجراء الكتل البرلمانية مشاورات جادة للتوصل إلى حكومة يُجمع عليها الكل، وفي حال تعذر ذلك، فسيتم الاحتكام إلى الكتلة الأكبر.
ويرهن النائب السابق محمد الصهيود، نجاح رئيس الوزراء المكلف، بمغادرته المحاصصة الطائفية والحزبية وإنهاء التدخلات الخارجية. ويقول إن تكليف عبد المهدي في تشكيل الحكومة جاء بعد تعهّده بمغادرة المحاصصة، وفي حال العودة إلى المحاصصة كما تحاول الكتل السياسية الآن فإن حكومة عبد المهدي لن تنجح. ويعتبر الصهيود أن حرية الاختيار الممنوحة لعبد المهدي تهيئ لتشكيل حكومة قوية قادرة على إنهاء الفساد الإداري والمالي وتبدأ بمشوار الإصلاح الاقتصادي وتوفير الخدمات الأساسية للمواطن.
وتستمر الصراعات بين التيارات السياسية المختلفة في ظل وضع سياسي تلعب فيه العديد من هذه الأحزاب دور الغطاء على نظام الطائفية والمحاصصة والصراع على النفوذ. فعضو التحالف الوطني فريد الإبراهيمي يرى أن النظام السياسي بني على المحاصصة والطائفية والشراكة والتوافق وجميع هذه المسميات التي لم تصل العراق إلى بر الأمان.
سبب الأزمات
ويعتبر الكاتب عباس الإدريسي أن النظام السياسي في العراق هو سبب كل الأزمات التي تضرب العراق من شماله إلى جنوبه، بعد مرور أكثر من خمس عشرة سنة من «التغيير»، وأن تدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية سببه النظام السياسي وأخطاؤه الكارثية التي يدفع ثمنها الشعب العراقي الذي أوقعه قادة النظام السياسي في مستنقع المحاصصة والطائفية والنظرة ضيقة الأفق في معالجة المشكلات.
ويرى الإدريسي أن جميع الأحزاب السياسية التي تنتمي للطوائف والقوميات في العراق تشترك في الحكومة، وأن الكل يريد أن يعتلي السلطة ويشارك بالحكومة، ما يعني غياب أي دور للمعارضة بصورة كاملة، وهذا مؤشر خطير في فهم العمل السياسي.
فالحكومة القوية تقابلها معارضة قوية، والمعارضة الحقيقية لا يقل دورها عن دور الحكومة، حيث إنها تقوّم عمل الحكومة وتكشف أخطاءها وتراقب عملها، لكن من مفارقات العمل السياسي في العراق - حسب الإدريسي - أن الذين يقودون التظاهرات والاحتجاجات يشتركون بالحكومة، وهذه ليست سياسة معارضة إنما وسائل ضغط على الحكومة من أجل زيادة المنافع والامتيازات.
ويعتقد الإدريسي أن التوافق السياسي ونهج المحاصصة الطائفية والقومية والعرقية قتلا النظام السياسي وجعلا العراق يتخبط بفوضى عارمة. وإذ يدافع بعض السياسيين عن المحاصصة باعتباره نظام حكم مأخوذًا به في بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية ودول أخرى، فإن تلك بنظر آخرين محاولة للدفاع عن مكاسب فئوية وطائفية أفرزها الاحتلال، إذ إن الحديث هنا لا يتعلّق بأقاليم جغرافية لدولة ومجتمع مندمجين على نحو كبير، كما في الدول المذكورة.
لذلك يستخدم بعض السياسيين تعبير «مكونات عراقية» للتغطية على التشكيلات الطائفية والعرقية، باعتبارها من تشكيلات ما قبل الدولة المدنية، ولذلك أراد الاحتلال أن يقيم لها دولة مكونات ممزقة ومُقتتلة، من دون أن يذكر اسم هذا المكون أو ذاك، أو يتحدّث صراحة عن ذلك في الدستور، واستعاض عن الصراحة بتورية عبّرت عنها عبارات من نوع التوازن بين المكوّنات، وليس المساواة بين المواطنين.
وإذ أصبح تشكيل الحكومات والتعيين في الوظائف قائماً على المحاصصة من دون نص صريح، فذلك لأن من أوجد الدستور هو نفسه من أتى بالكثير من القائمين على النظام السياسي، وهم الذين يوجّهون المادة الدستورية باتجاه الترجمة التي تنسجم مع نظام يبرّر وجودهم على رأس النظام.
بلسمة الجراح
بعد مرور خمس عشرة سنة على الغزو، يرى كثير من العراقيين أنهم باتوا مطالبين، أكثر من أي وقت مضى، ببلسمة الجراح التي خلّفها الغزو، وعمّقها العنف الطائفي والأزمات السياسية، وغذّاها العنف المسلّح، ليتحول العراق إلى دفيئة للمفخّخات والقتل الطائفي والتفتيت المجتمعي، وإتاحة الفرصة للتدخّلات الخارجية المسيئة لعروبة العراق ووحدة أبنائه.
فعندما يدرك الجميع أن مآسي الفتنة لا تستثني أحداً ولا تخدم أحداً، يعود العراق إلى عراقته، بلدًا تجمع جميع أبنائه قيم المواطنة الصالحة والإيجابية وإنتاج العلم، ولا يرتهن للتقسيمات الطائفية والعرقية والمحاصصة التي ما إن تدخل بلدًا حتى تقوده إلى الخراب.
التعليم ضحيّة المشهد السياسي في العراق
السرطان لا ينتقي ضحاياه من خلايا الجسم، ولا يمارس ترف الاستثناء، بل يفتك بالجميع. هكذا هي المحاصصة الطائفية، لا تقف عن حدود السياسة ومؤسسات الحكم، بل تتسلل إلى ثنايا المجتمع ومؤسساته وحقول حياته الحيوية. كل الأزم ات الأمنية والاقتصادية وكل ما يرتبط بسوء قطاعات التعليم والصحة وغيرها هي ببساطة نتائج طبيعية للمحاصصة.
المدرسة، بمناهجها الأكاديمية وكتب تاريخها والمواد المتعلقة بالدّين، قد تكون المكان الأكثر خطورة لجهة تمكّن الاعتبارات الطائفية والمذهبية من اختراقه في عراق ما بعد احتلال عام 2003. ويرى كثير من العراقيين أن مدارس بلاد الرافدين باتت تعيش مشكلات يومية ناتجة عن نظام المحاصصة.
ويشير المعلم محمد رضا في مدرسة ابتدائية إلى أن مناهج مواد التربية الإسلامية والوطنية والتاريخ تغيّرت أربع مرات خلال ثماني سنوات. ويعيش تلامذة المدارس وذووهم أزمات لا تُحصى، فأحياناً قد تتسبب طريقة الصلاة مشكلة لتلميذ في مدرسة يديرها أبناء مذهب يصلّون بطريقة أخرى، في حين أن المناهج زمن النظام السابق كانت تركّز على النصوص القرآنية فحسب، وكان التوجه العام في ذلك الوقت يتمثل بإخفاء الانتماء المذهبي، وعدم الحديث عنه، ناهيك بفرضه على التلاميذ.
المعلّمون
الأزمة لا تقتصر على التلاميذ، إذ تطال المعلّمين أيضاً، إذ يشكو عدد منهم بأنهم في حيرة من تعليم مفاهيم لم يألفوها على تلاميذ لا ارتباط لهم بها كذلك.
ويرى متابعون عراقيون أن «الديمقراطية» الناشئة على أسس المحاصصة المذهبية والإثنية جعلت من وزارة التربية جزءاً من هذه المحاصصة، ما دعا خبيرًا تربويًا مثل محمد موسى ينادي بضرورة إبعاد السياسة عن القطاع التربوي بمراحله كافة، وذلك يحصل من خلال تسليم حقيبة الوزارات التعليمية لمتخصّصين يمتازون بالموضوعية، كأنْ يكونوا علمانيين وليبراليين، والاطلاع على تجارب دول أخرى «كون التعليم الأساسي حجر الزاوية في تنمية العقول البشرية».
وربما لهذا السبب دعا سكرتير الحزب الشيوعي العراقي، ورئيس قائمة اتحاد الشعب حميد مجيد موسى، خلال لقائه مجموعة من الطلبة، إلى إبعاد المحاصصة عن المؤسسات التعليمية بهدف تأمين وضع دراسي سليم وناضج.
تحدّيات ومخاطر
ولذلك أيضاً كتب جاسم محمد هايس الحبچي في ديسمبر 2016، أن هناك تحديات ومخاطر عديدة واجهت التربية والتعليم في العراق بعد، 2003 حيث تشكل المحاصصة السياسية أهم هذه التحديات. وقال «بما أن الأحزاب والكتل السياسية هي مجموعات قومية ودينية وطائفية وعشائرية، فقد تم تقسيم المناصب وفقاً لهذا المفهوم».
وأضاف أن المناصب والأموال توزع بطريقة فنية إدارية حديثة على الكتل والأحزاب والمجاميع، وكان لحقل التربية والتعليم حصته من هذا التقسيم، أي أنه أصبح خاضعاً لهذه المحاصصة. وهكذا أصبحت أهم الوزارات ومنها وزارتا التربية، والتعليم العالي، خاضعتين لهذا النظام، ابتداء من أعلى الهرم إلى أصغر وحدة إدارية.
وفي كل انتخابات كانت هذه الوزارات تصبح من حصة حزب أو طائفة أو قومية بعينها وبالتالي يتم توزيع باقي المناصب على أفراد هذا الحزب أو الطائفة. وقد كان لإخضاع قطاع التربية والتعليم عواقب وخيمة على الشعب العراقي أولاً، وسمعة العراق ثانياً وبنائه كدولة ثالثاً وتقدّمه رابعاً.