يتناول ملف «العثمانيون الجدد»، بالتفصيل، حقيقة الازدواجية التركية في تعاملها مع العرب، واستغلالها الاضطرابات التي شاركت تركيا بنفسها في إحداثها في الدول العربية، من أجل تعزيز نفوذها في خطين متوازيين، الأول عبر دعم الخطاب المتطرف الإرهابي إعلامياً عبر منصات الدعاية، وعلى الأرض عبر القواعد العسكرية، والثاني عبر تعزيز العلاقات مع إسرائيل والزعم بعكس ذلك في الإعلام، وكيف أضاف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الزخم والقوة للعلاقات مع إسرائيل في جميع المجالات، كما يلقي الضوء على التعاون العسكري مع إسرائيل من خلال 60 اتفاقية عسكرية بين البلدين.
يزيح الملف الستار ويكشف المسكوت عنه في مساعدة أردوغان للطيران الإسرائيلي خلال الحروب الثلاث ضد قطاع غزة، والكميات الضخمة من الأسمنت والحديد التركي التي ساهمت في تشييد المستوطنات، وهو ما يوضّح ازدواجية المواقف والتصريحات التي تصدر من النظام التركي.
عندما فشلت تركيا في تحقيق أهدافها في المنطقة وخارجها، من خلال «الوسائل الناعمة» المتمثلة في الفوضى والشعارات الزائفة، وما سميت «الثورات البرتقالية»، و«الربيع العربي» عادت لـ«الوسائل الخشنة»، التي تعتمد على استغلال الظروف الداخلية والإقليمية للدول الأخرى في الابتزاز، للحصول على القواعد العسكرية، أو التواطؤ مع أنظمة مارقة ضد الأمن القومي العربي.
وتزامن كل ذلك مع تأسيس الشركات الأمنية، التي تعتمد على المرتزقة، والميليشيات العابرة للحدود، وكان واضحاً إصرار أنقرة على أن تكون تحركاتها للعودة لمستعمراتها القديمة مرتبطة بالحصول على ثروات هذه الدول والشعوب، وفي مقدمتها الغاز والنفط في شرق المتوسط والدول العربية المضطربة، فحتى قبل إعلان الرئيس التركي عن اكتشاف حقل الغاز في البحر الأسود لم يكن لدى تركيا أي مصادر للطاقة لا في البحر ولا في البر، كما أن تركيا بالتعاون مع حلفائها في التنظيم الدولي للإخوان سعت طوال السنوات الماضية إلى تأمين «خزانة مالية إضافية»، بجانب «الخزانة القطرية» لتمويل مشروعات تنظيم الإخوان في المنطقة والعالم.
بعد احتلال العراق 2003، وحالة الفوضى وعدم «اليقين السياسي والاقتصادي»، الذي لحق بالمنطقة العربية في 2011، شعرت تركيا أن فرصتها حانت للسيطرة على الدول العربية، وأسرعت تركيا بإرسال الجنود وبناء القواعد العسكرية في قطر عام 2017 رغم أن الخلاف بين الدوحة والرباعي العربي كان دبلوماسياً وأمنياً وليس عسكرياً.
والاتفاقية الثنائية بين البلدين، التي تم التوقيع عليها في الدوحة في 28 أبريل 2016، تحتوي على الكثير من الغموض والثغرات التي تحيط بشروطها وبنودها. وفي «تغريدة» لأمير قطر في 15 أغسطس 2015 قال: إن الدوحة ستدفع 15 مليار دولار استثمارات في الاقتصاد التركي، ومن يراقب الودائع التي أودعتها الدوحة في البنك المركزي القطري، والتي وصلت إلى 26 مليار دولار، يتأكد أنها ثمن للقاعدتين التركيتين في قطر.
ويرى المراقبون أن القاعدة التركية في الدوحة تعد احتلالا بوجه مكشوف، وأن قطر تواصل سياسة الاستقواء بالخارج ضد جيرانها العرب، وتحولت إلى مجرد ديكور سياسي في اللعبة التركية ضد الأمن القومي العربي.
لم يتوان المسؤولون الأتراك عن التلميح والتلويح باستخدام وجود بلادهم العسكري في قطر ضد مصالح الدول الخليجية الأخرى، فالوجود التركي بهذا المعنى عنصر عدم استقرار وتهديد لأمن المنطقة ومستقبلها.
خط الجرذان
يقول ميخاليس ميخائيل مسؤول الإعلام في الحكومة القبرصية لـ«البيان» من نيقوسيا: إن تركيا ترفض أي حلول سياسية للأزمة القبرصية منذ عام 1974، وتعتبر قواعدها بشمال قبرص في غاية الأهمية لاستراتيجيتها في شرق المتوسط خصوصاً بعد اكتشاف قبرص احتياطات ضخمة من الغاز والنفط في المياه القريبة من الجزيرة.
وزادت أهمية القواعد العسكرية التركية مع أحداث الفوضى التي شملت المنطقة العربية بداية من 2011 خصوصاً عندما نقلت تركيا آلاف الإرهابيين من ليبيا إلى سوريا أواخر 2011 وبداية 2012 «خط الجرذان الأول»، حيث جرى نقل جزء من هؤلاء الذين حاربوا ضد نظام معمر القذافي في بدايات عام 2011 إلى سوريا والعراق، وقامت تركيا بنقل قادة المجموعات المسلّحة من ليبيا إلى القواعد التركية في شمال قبرص، وبعد ذلك تم نقلهم إلى سوريا، ومع توقيع مذكرتي التفاهم بين أنقرة وفايز السراج في نوفمبر الماضي جرى نقل السلاح والمرتزقة من شمال سوريا وجنوب تركيا للغرب الليبي، وهنا لعبت القواعد العسكرية التركية في قبرص الدور نفسه، الذي لعبته عامي 2011 و2012 لنقل الإرهابيين، لكن في الاتجاه العكسي، وهو ما أطلق عليه «خط الجرذان الثاني»، وتحتل تركيا شمال قبرص بالكامل منذ عام 1974، ولها هناك قاعدتان بحريتان وقاعدة جوية، وزادت أهمية هذه القواعد في ظل مساعي الاتحاد الأوروبي لمراقبة السواحل الليبية من تهريب السلاح التركي، حيث عملت القواعد التركية في قبرص كنقطة في منتصف الطريق بين الأراضي التركية وليبيا، كما أنشأت تركيا قاعدة للطائرات المسيرة في الطرف الجنوبي من الجزء الشمالي التركي قرب مدينة نيقوسيا المقسمة بين الشطرين اليوناني والتركي، وهو ما أضاف فوائد جديدة للقواعد التركية في قبرص بعد التطورات الأخيرة في ليبيا.
النفط والقواعد التركية
وفق المحلل التركي سلكان هاك أوغلو في دراسة نشرتها «بلومبيرغ» في 7 مارس 2019 بعنوانMapping the Turkish Military’s Expanding Footprint، فإن الميزانية العسكرية التركية زادت من 1.8% عام 2015 من الناتج القومي إلى 205 % عام 2018، ووضعت تركيا في حسبانها اقتصادها المتدهور، لذلك اتسمت القواعد العسكرية التركية بالخارج بقربها من حقول النفط والغاز حتى تحقق لها مصالح اقتصادية تعوّضها عن أي إنفاق عسكري خارجي، وهذا واضح للجميع في أكثر من 20 قاعدة ومقر عسكري تركي شمال العراق أكبرها قاعدة «بعشيقة» وغالبية القواعد والمقرات العسكرية قريبة من الحقول النفطية في كركوك والموصل، حيث تعمل هذه القواعد على تهريب النفط العراقي للخارج، وهو الأمر الذي اعترضت عليه الحكومة العراقية في بغداد أكثر من مرة، كما طلب أردوغان بشكل مباشر وعلني من الرئيس الروسي حصة في الغاز والنفط السوري شرق الفرات، حيث يقع 60% من الغاز، 45% من النفط السوري في تلك المنطقة، التي تخضع لسيطرة القوات الأمريكية، كما أنشأت تركيا 12 نقطة مراقبة عسكرية في إدلب وريف حلب الشمالي بموجب اتفاق مع روسيا وإيران، وقامت تركيا بتعزيز هذه النقاط، التي تحولت إلى قواعد عسكرية حقيقية في عمق سوريا مثل تلك الواقعة قرب بلدة مورك وسط سوريا على بعد 88 كيلو متراً من الحدود التركية، كما تحتفظ تركيا بعدد من القواعد العسكرية في مناطق الباب وجرابلس وإعزاز وعفرين.
القواعد والطاقة
في أحد الخطابات الفجة لأردوغان أمام البرلمان التركي، قال إن الوجود التركي في ليبيا يهدف إلى توفير 50 مليار دولار، وهي قيمة فاتورة الطاقة، التي تستوردها تركيا سنوياً، وهذا يكشف سبب السعي التركي للسيطرة على سرت، ومن ثم الهلال النفطي والموانئ النفطية بكل الوسائل سواء كانت سلماً أو حرباً، لأن الحسابات التركية تقوم على أنه لا يمكن أن تقيم أنقرة قاعدة جوية في الوطية، وأخرى بحرية في مصراته من دون أن تحصل على المقابل المالي، ووفق تقارير ليبية متطابقة، وتصريحات المتحدث الرسمي باسم القيادة العامة للجيش الليبي اللواء أحمد المسماري فإن حكومة فايز السراج دفعت بالفعل لأردوغان ما يقرب من 17 مليار دولار، بدعوى أنها كانت ديوناً للشركات التركية على الدولة الليبية أيام القذافي، وكان يمكن لأردوغان أن يحصل على أضعاف هذه الأموال إلا أن إغلاق الجيش الليبي لآبار النفط خلال الشهور الماضية حال دون تحويل السراج أموال هذا النفط للخزينة التركية.
تدريب الانكشاريين
ووفق الموقع الرسمي لشركة «صادات» الأمنية التركية، التي تجنّد المرتزقة والإرهابيين في شمال سوريا والصومال وآسيا الوسطى وغيرها فإنها تأسست في عام 2012 وتعمل حتى الآن في 20 دولة، منها 7 دول عربية و10 دول في أفريقيا ودولتان في آسيا الوسطى.
وتقوم هذه الشركة بالتعاقد مع المرتزقة، الذين يذهبون إلى ليبيا أو قطر حتى لا يكون هناك رابط رسمي بين المرتزقة والميليشيات من جانب والدولة التركية من جانب آخر، وهو أسلوب قديم جديد، فالمعروف أن الانكشارية «المرتزقة» غير النظاميين هم الذين ظلوا يحاربون عن الدولة العثمانية لقرون، ويوجد معسكرات تدريب لشركة «صادات» في مدن بطمان وأورفه وفان وهطاي، ولكن أهم معسكر يقع في غابات ديار بكر، واستخدمت تلك المعسكرات لتدريب عناصر من تنظيم داعش و«أحرار الشام» و«النصرة» و«الذئاب الرمادية» على أساليب القتال والحروب غير النظامية لنشر الخراب في المنطقة العربية.
ووصفت الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا، هذه الشركة بمثابة الحرس الثوري التركي، التي تدين بالولاء لأردوغان، وتتولى حماية نظامه واختيار العناصر العسكرية، التي تتقرب منه والمناصب القيادية في الجيش، وهي تتحكم الآن بمفاصل الجيش التركي بجانب عملها في الخارج.
قاعدة عسكرية تركية في الصومال
قال الدكتور إيتان ياناروكاك في دراسة نشرها معهد القدس للاستراتيجية والأمن The Jerusalem Institute for Strategy يوم 20 يوليو الماضي: إن تركيا توجّه أنظارها لليمن لبناء قواعد عسكرية، وإيجاد موطئ قدم في اليمن بعد القاعدتين العسكريتين في ليبيا، كما أن القاعدة التركية في مقديشو بالصومال، التي تم إنشاؤها في عام 2016 وتكلفت ما يقرب من 50 مليون دولار كانت مقابل موافقة الحكومة الصومالية على قيام شركة النفط والغاز التركية بالتنقيب عن الطاقة أمام السواحل الصومالية، ويمكن للقاعدة التركية في الصومال أن تأوي 1500 جندي، وتقدم التدريب لهم في وقت واحد، وتبلغ مساحة القاعدة أربعة كيلو مترات، وهي قادرة على استقبال قطع بحرية، وطائرات عسكرية إلى جانب قوات كوماندوز.
وبدأت تركيا تستفيد من هذه القاعدة في نقل عدد من الضباط الصوماليين، الذين دربتهم فيها للقتال في ليبيا، وباتت هذه القاعدة اليوم، مع القاعدتين التركيتين في قطر أماكن لتدريب المرتزقة والميليشيات قبل التوجه إلى طرابلس ومصراتة، وهو ما أكده تقرير لموقع قناة «العربية» باللغة الإنجليزية، الذي قال: إن القاعدة العسكرية التركية في الصومال لن تكون الأخيرة في المنطقة، فخلال زيارته لنيامي عاصمة النيجر الشهر الماضي وقع وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو على اتفاقية للتعاون العسكري مع حكومة النيجر قيل إنها لمنع الهجمات من الجبهة الجنوبية على قاعدتي الوطية ومصراته، بعد استهداف أنظمة الدفاع التركية في الوطية من جانب طيران مجهول، وهدف تركيا من التعاون العسكري مع النيجر هو توصيل رسالة لفرنسا بأن أنقرة قريبة من 5200 جندي فرنسي في المنطقة، كذلك هناك وجود عسكري تركي في منطقة الساحل والصحراء في أفريقيا، وربما هذا هو سبب عدم الاستقرار في هذه المنطقة.