بعد أكثر من عقدين من الزمن على بحث «الناتو» عن دور جديد، يبدو أنه قد عثر عليه الآن، أو أنه بدأ يتلمس طريقه في هذا الاتجاه. فتجربته في ليبيا مرشحة لتشجيعه وإعطائه فرصة لبلورة وترسيخ مهامه خارج فلكه الأوروبي الأصلي.
دور الحلف هناك حقق غرضه بكلفة من المتوقع أن يتم تعويضها وبتجديد حضوره. وبذلك وجد وظيفة يمكنه من خلالها كسب هوية جديدة تخرجه من وضعه كعاطل عن العمل منذ نهاية الحرب الباردة. على الأقل وظيفة مؤقتة، طالما أن الظروف مواتية والطلب عليها متوفر. خاصة في منطقتنا وربيعها المفتوح والذي يفتح شهية التدخل نجاحه، وفق مقاييسه، في ليبيا يغري ويعزّز الاندفاع داخل مطبخ قراره، في هذا الاتجاه. وليس صدفة أن تطل بوادر هذا التوجه من واشنطن وعلى لسان أحد كبار العارفين والمؤثرين في صياغة السياسات الخارجية، السناتور والمرشح الرئاسي السابق جون ماكين الذي قال بعد سقوط نظام القذافي: «لا أستبعد دورا مماثلا لحلف «ناتو» في سوريا».
في قمة لشبونة، قبل حوالي عام، كان من المتوقع أن يطلع الحلف بإطار يحدّد الغرض والجهة التي يستهدفها ويعين أولوياته ومهامه المختلفة عن ذي قبل بحكم اختلاف المعطيات وغياب الخصومة التي كانت وراء ولادته. وربما إعادة النظر في تركيبته وشكله وموازنته، بما يتلاءم مع الظروف الناشئة والاحتمالات القريبة منها والبعيدة. جاء الوعد بالبت في هذا الخصوص بعد جدل ونقاش استمر سنوات، لرسم استراتيجية الحلف، لمرحلة ما بعد الحرب الباردة. فلا بدّ من تسويغ استمراره وتحديد تكلفته، بعد أن تلاشت علّة وجوده الأساسية، مع انهيار جدار برلين.
لكن القمة عجزت عن ذلك، وبقي المطلوب منها في المساحة الرمادية. البيان الختامي عكس بضبابيته تعذر الإجماع على تمديد عمر حلف بهذه الضخامة والإمكانيات، استنادا إلى حيثيات ضعيفة ومبهمة. وكان ذلك واضحاً في تشديد البيان على وجوب «تطوير التعاون بين دول الحلف». وكأنه يقول إن براغي الحلف قد تراخت بعد زوال الاتحاد السوفييتي، فهبط الطموح من علاقة تحالف إلى علاقة تعاون. وانعكست الصورة المشوشة في المداولات، التي اكتفت بتحديد المخاطر بلغة العموميات والعناوين العريضة والمتنوعة، مثل «محاربة الإرهاب» و «انتشار أسلحة الدمار الشامل» وكذلك انتشار الأسلحة الصاروخية.
وأضيف إلى اللائحة ولأول مرة، احتمال تمديد دور الحلف إلى ما وراء الحدود الأوروبية. قوبل آنذاك هذا الخيار بالفتور أكثر من غيره من عناوين التحالف التي طرحت آنذاك. وكانت تعبيرات ذلك واضحة في درجة التضامن الضعيفة التي طبعت موقف معظم الحلفاء الأوروبيين من حرب أفغانستان، التي طغت على تلك القمة. ما عرضته واشنطن بشأن المرحلة الانتقالية الأفغانية أثار ما يكفي من الشكوك لديهم والعزوف عن المزيد من التورط .
فالقارة غارقة بهمومها المالية الاقتصادية وموازناتها المتقلصة، وليست في وضع يسمح لها بأخذ فائض القوة إلى الخارج. لاسيما أن الحلف لم يتوصل إلى تحديد دوره بصورة واضحة وملزمة. لقد أنهى قمته بالحدّ الأدنى من وحدة التحالف، بحيث حصل التوافق على تعيين المخاطر لكن بقي التباين قائماً بخصوص المقاربات والمعالجات الأمنية في الخارج، إلى أن جاء الربيع الليبي وفتح الفرصة للناتو، لتقديم نفسه كحلف عسكري قادر على تغيير المعادلة، خارج مسرحه. قرار مشاركته في المعركة ضد النظام الليبي، عبر غطاء الحظر الجوي، لاقى الثناء في طول الساحة الأميركية وعرضها، على الرغم من التحفظات والاعتراضات التي توالت في البداية. وأعيد للحلف شيء من صورته السابقة وجرى التهليل لدوره «الظافر».
وعلى خلفية هذا «الإنجاز»، جاء تلويح السناتور ماكين بإمكانية نقل التجربة إلى سوريا. فدفع الحلف في هذا الاتجاه، برغم العقبات الدولية التي تعترضه الآن، والتي قد تزول في حالات وظروف معينة، يحقق في نظر دعاته أكثر من غرض: يزيد من طلب خدماته في ساحات معينة، يرسّخ دوره الخارجي، يعزّز من تماسكه، ويخفف من ثقل العبء العسكري الخارجي على أميركا. خاصة وأنه يتقاضى كلفة تدخله، كمقاول يقدم خدماته الأمنية بثمنها