إذا نظرنا إلى خارطة شمالي العراق، يظهر لنا بوضوح أن تنظيم «داعش» الذي يسيطر على مدينة الموصل يتسم بالهشاشة، أما غرباً فتبدي قوات الميليشيات استعدادها للتقدم، في حين أن عناصر الجيش والقوات شبه العسكرية لا تبعد أكثر من 20 كيلومتراً شمالاً وجنوباً وشرقاً.
مع ذلك، وعلى الرغم من أن تلك القوى تبدو على خطوط التماس، فإنها لا تزال بعيدةً جداً عن استعادة الموصل. وما لا تظهره الخرائط هو العداوات المريرة والأطماع السياسية والصراعات الإقليمية على السلطة التي تحرك القوى المحتشدة حول ثاني أكبر مدن العراق، وتعرقل واحدةً من الحملات الأكثر أهمية في الحرب ضد المتشددين.
حرب ما بعد التنظيم
وقد قال أحد المسؤولين الأمنيين العراقيين في تعليقه على هذا الأمر: «يخطئ كل من يظن بوجود أي خطة كبرى، إذ ليست هناك خطة من هذا النوع.»
وقد حققت قوات التحالف على امتداد فترة عامين من احتلال «داعش» لمناطق واسعة من العراق وسوريا، بعض الإنجازات. وأعلنت مصادر في البنتاغون أن قوى التحالف جعلت التنظيم يخسر 46 بالمئة من الأراضي العراقية و16 بالمئة من المناطق التي كانت تخضع لسيطرته في سوريا، على نحو أسرع مما كان يتوقع المسؤولون الأميركيون. وقد حدا هذا الزخم الأخير بالعديد من الفاعلين الإقليميين إلى التحلي بالثقة، وكأن الحرب قد انتهت.
وعلق مسؤول أممي في العراق على الوضع بالقول: «نسي الجميع (داعش) وانهمكوا في التمترس لخوض حرب ما بعد التنظيم.»
مهّد التغيير الشامل الذي أنتجه وجود «داعش» السبل أمام فرص الاستيلاء على مساحات جديدة أو إعادة التأكيد على محاور النفوذ. ولم تقف تلك الأطماع عائقاً أمام الصراع غير المنتهية فصوله، بل عززت المخاوف من سفك الدماء على خلفيات طائفية، واندلاع حروب إقليمية بالوكالة مستقبلاً.
أما اليوم فتحول السياسة، لا القضايا العسكرية، دون خوض معارك مصيرية ضد «داعش»، كما في الموصل أكبر المدن الواقعة تحت سيطرة التنظيم، أو الرقة، عاصمة الأمر الواقع في سوريا.
وتعوّل حملة الائتلاف المناهض لـ«داعش» على استعادة ثلاث مناطق، هي الموصل في العراق والرقة في سوريا ومدينة منبج الواقعة على الحدود التركية. وتشكل كل من تلك المناطق مزيجاً من المصالح أعقد من حيث إمكانية التفكيك من مسألة الحرب.
وينقسم العراق بين الشيعة، الذين يسيطرون على الحكومة، وسنة مهمشون يسعون إلى المزيد من السلطة وأقلية إثنية كردية تحلم بالاستقلال، وليست الظروف التي تحيط بالموصل سوى انعكاس لتلك الانقسامات. وتضاف إلى كل ذلك عداوة كردية داخلية وصراع بالوكالة بين تركيا وإيران.
أزمة سياسية واقتصادية
وتندلع الحروب في العراق على خلفية أزمة سياسية واقتصادية تخنق البلاد، وتحاصر رئيس الحكومة حيدر العبادي بين فك المحتجين المطالبين بقمع الفساد، وفك النخبة المترددة بالتنازل عن نظام الرعاية الطائفي المسؤول عن ثرائها منذ اجتياح عام 2003.
وتبرز حدّة التوترات كذلك على جبهة منبج، المدينة الممتدة على الحدود التركية السورية، ومنطقة العبور الأخيرة للتنظيم إلى تركيا ومنفذه على أوروبا.
وتكمن المشكلة في العداوات التي تعصف بشركاء التحالف. كما أن العديد من مجموعات المقاتلين لا تزال تركز استهدافها على نظام الرئيس السوري بشار الأسد، في حرب لا تنهيها إلى تسوية متفق عليه في جنيف وفق بعض القوى الأجنبية. غير أن ذلك لا يزال يبدو بعيد المنال، في ظل تعثر محادثات السلام وهدنة اتفاق وقف إطلاق النار الجزئي.
ويتجلى التوتر العربي الكردي المبدئي بوضوح في مساعي التحالف لاستعادة الرقة. وعلق فيليب غوردون المسؤول الأعلى السابق لشؤون الشرق الأوسط في البيت الأبيض بالقول: «لا أعتقد أن الأكراد مستعدون لفرض التغييرات في دمشق أو في الاستيلاء على الرقة وجلب الاستقرار إلى شرق البلاد. لذا وإن كان الهجوم مفيداً في بعض الأوجه، إلا أنه لا يحلّ المشكلة ككل.»
تعقيدات
ينطوي مسار الحرب على مضاعفات خطيرة إذ إنها تخلف ملايين المشردين والنازحين في سوريا والعراق في الوقت الذي تبدو القوى العالمية مصممة على وقف تدفق اللاجئين إلى أوروبا. وأشار مسؤولون أميركيون إلى أن الاستعدادات لاسترداد أهداف رئيسية كالموصل من يد التنظيم اتسمت بالصعوبة البالغة. حيث إن الخلافات السياسات الكثيرة العالقة وبعض المناوشات قد تعود بالضرر الكبير، لما تعنيه من إعادة ظهور التوترات السياسية والطائفية .