هي مونيكا ليونيسكي ولكن في دولة اسلامية محافظة هي ماليزيا. اسمها امي حفيظة... جميلة... جذابة... جريئة ... وصفت في الصحافة المحلية بأن الليل والكحل ورائحة القهوة يختبئون في عينيها, وان وجهها يحقق الاكتفاء الذاتي وان جسدها الرشيق قادر على السباحة ضد جاذبية الارض. كلمة واحدة منها قلبت الناظم السياسي في بلادها واطلقت مظاهرات الغضب في الشوارع وفجرت صراعا على السلطة اصبح حديث العالم وشدت الانتباه الى فضيحة جنسية من نوع خاص اختلط فيه الجنس بالفساد المالي والشذوذ بتصفية الحسابات السياسية وراح ضحيتها الرجل الثاني في الدولة انور ابراهيم الذي وصف ماجرى له بعملية ختان قسري. في صيف 1998 ــ الذي كان ملتهبا بالسخونة وخانقا بالرطوبة ومدويا بالانهيار الاقتصادي للنمور الآسيوية ومنها ماليزيا ـ ارسلت حفيظة رسالة محشوة ببارود الفضائح الى رئيس الوزراء مهاتير محمد تتهم انور ابراهيم نائبه في الحكومة والحزب بممارسة الشذوذ مع شقيقها ازمين علي وممارسة الزنا مع زوجته (شمس دار) التي انجبت هند طفلة عمرها الآن ثلاث سنوات وازمين علي هو سكرتير انور ابراهيم وكاتم اسراره. وقبل ان تبرد رسالة حفيظة جاءت رسالة اخرى اكثر جرأة تتضمن اعترافا مذهلا من عزيزان ابوبكر سائق انور ابراهيم الخاص بأنه كان ضحية لعملية شذوذ اجبره عليها انور ابراهيم!! وفي 20 يونيو 1998 واثناء المؤتمر العام لحزب (الجبهة الوطنية) الحاكم فوجيء قادة الحزب على كافة المستويات وعددهم 1900 شخصا بملفات مغلقة توزع عليهم وعندما سارعوا بفتحها وجدوا نسخا من كتاب بعنوان (50 دليلا على عدم اهلية انور ابراهيم لرئاسة الحكومة) تضمن اتهامات جنسية واتهامات بالتخابر لصالح دولة اجنبية تتجاوز الخيانة العظمى... ومؤلف الكتاب صحفي رياضي لا علاقة له بالسياسة تخصص في متابعة مباريات الاندية الريفية هو خالد جفري. ووجدها مهاتير محمد فرصة ليعرض ما سجلته محاضر الشرطة لثلاث نساء يعملن في النظافة قالت اثنتان منهن انه حاول معهما ولكنهما رفضتا وقالت الثالثة انه اجبرها على ذلك وفي محاضر الشرطة ايضا اعتراف من سائقه الثاني بأته مارس الشذوذ معه. ولمدة ثلاث ساعات راح انور ابراهيم يدافع عن نفسه ببلاغة وسخرية وقال ان محاولة اغتياله التي تجري على هذا النحو تجعل بلادنا عقيمة فلا نجم يسطع ولا ارض تحبل وكأننا اصبحنا شعبا بلا ذاكرة نتناسل كالزواحف في الغرف المغلقة نلعق حذاء اي نظام ونلبس جلود النمور ونحن حمام... ونزعم اننا جبال ونحن اشد جبنا من النعام. والمعروف ان انور ابراهيم واحد من ابرز الرموز الاسلامية, سطع نجمه في مظاهرات 1969 بعد المصادمات العرقية العنيفة بين الاغلبية المسلمة والاقلية البوذية الممتدة جذورها الى الصين وهي مصادمات تمتد الى عمق التاريخ منذ حمل التجار العرب رسالة الاسلام معهم الى هذه المنطقة التي تنتج الحرير والتوابل والفلسفات الروحية. وقد ساند انور ابراهيم نظام مهاتير محمد بذكاء وخبرة اقتصادية دعمتهما صداقة شخصية متينة بينهما سرعان ما تمزقت عقب الازمة المالية التي حطمت اسنان النمور الاسيوية وحولتها الى فئران مذعورة... وفي زلزال الازمة الذي اصاب مهاتير محمد بالدوار بدأ الشارع الماليزي يحلم بالتغيير وتوجهت الانظار الى انور ابراهيم الذي لم يوافق على مساندة شركات ابناء الكبار في ماليزيا ومنهم ميرزان نجل مهاتير محمد الذي سددت الحكومة ديون شركة بناء السفن التي يملكها وهي ديون تصل الى 490 مليون دولار, كما انه في ظروف الازمة وجد ان من الممكن شراء شركة البترول الوطنية بتروناس, واتهم كذلك بالتلاعب في اموال الحج, وكشفت المعارضة مؤخرا ان ثروة عائلة مهاتير الموزعة على 200 شركة تصل الى 5 مليارات دولار. ورفض انور ابراهيم وهو وزير للمالية ان تقدم البنوك المزيد من القروض لرجال الاعمال الديناصورات المتحالفين مع السلطة السياسية والملتحقين بها بعد ان عجزوا عن سداد قروضهم القديمة والتي وصلت الى 120 مليار دولار كانت من نصيب 65 رجل اعمال فقط كانوا على حجر الحكومة وكانت ممتلكاتهم واصولهم لا تغطي اكثر من 30% من ديونهم حسب ما نشرته مجلة الايكونوميست في منتصف يوليو 1998... والمعروف ان هذا الخلل ادى الى انهيار في الاسواق المالية وهبوط في قيمة العملة المحلية (الرينجنت) بنسبة 60% وعجز الشركات والمؤسسات عن دفع رواتب الموظفين والعمال الذين فقد 27% منهم وظائفهم ومن ثم فشلوا في شراء الخبز والسمن وحليب الاطفال. ان الفساد السياسي ادى الى انهيار اقتصادي ولكن بدلا من التغيير والاصلاح وتجاوز الازمة بالطرق السلمية وعدم دفع الامور الى مثل ما جرى في اندونيسيا وجدت الحكومة الماليزية نفسها تدخل في نفق مظلم وتضرب تحت الحزام وتلجأ الى تفجير الفضائح الجنسية لحرق الشخصيات العامة البديلة التي قد يتطلع الناس اليها وسط العتمة والسواد وهكذا اتهموا انور ابراهيم بالزنا والشذوذ وسارعوا بتدبير الادلة وراحوا يضيفون اليها ما يحطمه ويحطم غيره في مجتمع اسلامي محافظي لقد اصطادوا في الماء العكر وضربوا اكثر من عصفور بحجر واحد. وفي حواره مع مجلة (المجلة) قال مهاتير محمد: انه كان على علم بفساد انور ابراهيم الجنسي منذ عام 1994 لكنه لم يقل لماذا انتظر عليه اربع سنوات كاملة واستطرد ان انور ابراهيم اراد تغيير النظام على الطريقة الاندونيسية وانه رفض الاستقالة من الحزب والحكومة فكان ان قدموه الى المحاكمة بتهم الزنا والشذوذ والانجاب غير الشرعي لكنه رفض ان تكون المحاكمة حسب الشريعة الاسلامية التي تصر على وجود 4 شهود لا يشك في تدنيسهم (هو ما يبرى ساحة انور ابراهيم) وقال: انه سيحاكم طبقا لقانون الكومنولث الذي يكتفي بالشهود ولو كانوا غير صادقين ومن ثم كان من السهل توفير شهود اثبات على هواهم ومع مدفعية الاعلام الرسمي التي راحت تدك سمعة انور ابراهيم, وبدا ان الرجل شارف على النهاية ولكن انصاره خرجوا الى الشوارع يعبرون عن غضبهم وسخطهم واتجهوا الى مقر الحزب والى بيت رئيس الوزراء ليدمروهما وهي المظاهرات التي وصفتها صحيفة (الموند) الفرنسية بانها صوت مدوي يثقب اعماق هذا الظلام لتحطيم وثن جديد من اوثان الفساد في عالم ثالث تصور انه يمكن بدون الديمقراطية السياسية ان يعبر ببعض الانتعاش الاقتصادي الى العالم الاول. ووصفت الصحيفة الفرنسية الشهيرة القضية كلها بأنها خلط متعمد بين وظيفة اجهزة امن الدولة واجهزة شرطة الآداب وقالت: ان التشهير الجنسي في الدول المغطاة بالدين اصبح في كثير من الاحيان اساس الحكم ولم يعد العدل اساس الملك كما يؤمن اتباع الدين الاسلامي الحنيف انها لغة مرعبة سدت فيها الحكومة الماليزية كل ثقوب الحرية وذبحت دون ان تدري عشرات الاشخاص والافكار الذين كانوا سيخرجونها من عثراتها. ان استعمال القضية الجنسية في تصفية خصوم السلطة سلاح تجيد استخدامه حكومات العالم الثالث حيث لا يملك المطعون فرصة الدفاع عن نفسه ولا يملك رد الطعنة كما في الدول الديمقراطية حيث كل شيء مباح على الهواء مباشرة بالصوت والصورة وفضيحة بيل كلينتون ومونيكا ليونيسكي لا تزال ماثلة في الاذهان. وفي حالة ماليزيا كما في حالات دول اخرى الحكومة هي التي تدق جرس الفضيحة وليست المعارضة او الصحافة التي يلصق بها اتهام الاثارة وكشف العورات واختراق خصوصيات الناس ومطارداتهم الى الفراش والتعامل مع ما تحت الثياب. علي ان اخطر ما فجرته الحالة الماليزية هو ما كشفت عنه صحيفة (نيويورك تايمز) نقلا عن مذكرات رجل المخابرات الامريكي الشهير كيرميت روزفلت والتي نشرت منذ سنوات تحت عنوان (الرجال الشرفاء) . ان كيرمت روزفلت هو الذي ينسب اليه محاولة اقناع الملك فاروق بقيام ثورة سلمية للتخلص من قوتي الشيوعيين والاخوان المسلمين وقيل انه عندما فشلت المحاولة توجه الى الجيش وترقب الفوران والغليان وقد تحولا الى شياط عبر عنه تنظيم جمال عبدالناصر للضباط الاحرار. كذلك فإن كيرميت روزفلت هو الذي دبر عملية (سوبر اجاكس) ضد الدكتور محمد مصدق في ايران لاعادة الشاه الى طهران في اغسطس عام 1953 واكثر من ذلك فان كيرميت روزفلت اكثر رجال وكالة المخابرات الامريكية خبرة بالشرق الاوسط وهو ما جعله يقول في مذكراته: انه ارسل بعض رجاله من الوكالة الى دول هذه المنطقة التي تتسم بالمحافظة على السطح والحرية الجريئة في كثير من الاحيان تحت السطح ــ ليتعلموا فنون واساليب التشهير بالشخصيات العامة وهي ما يطلق عليه (الدعاية السوداء) فهناك خبرة قديمة متراكمة من سنوات الاحتلال التركي والبريطاني لاجهزة الامن السرية لاطلاق الشائعات المنظمة بواسطة عملاء هذه الاجهزة لتحطيم خصوم النظام ومعارضيه معنويا بوصفهم بالنقائص الاخلاقية وعلى رأسها الشذوذ وهو الوصف الموجع الذي يصعب اثباته والذي لا يقبله مجتمع يسيطر عليه الذكور ويسعد الرجال فيه تعدد علاقاتهم النسائية... ان كثيرا من الحملات المنظمة من هذه العينة السوداء راح ضحيتها رجال شرفاء لم تجد اجهزة الامن عليم ما يشينهم فكانت تخترع تهمة الشذوذ وهي تهمة نالت من سياسيين ومفكرين وزعماء في الاحزاب والبرلمان وغيرهم ممن يقفون كالشوكة في الحلق. لقد اشارت (نيويورك تايمز) للخبرة الشرقية في التشهير برجولة الشخصيات العامة العنيدة وهي تتعرض لما جرى لانور ابراهيم لكنها لم تنس ان تذكر ان وكالة المخابرات المركزية قد استغلت هذه الخبرة في تصفية خصومها في الشرق الاوسط وبالاسلوب نفسه حتى يستسلم هؤلاء الخصوم ويعقدون صلحا مع الشيطان او مع الهوان ليقضوا على غريزة المعارضة لديهم وليمحوا منهم الرغبة في العصيان. ان انور ابراهيم ليس هو الضحية الاولى ولا الاخيرة لكن معظم الناس في بلاده لايصدقون بل ان عدد انصاره تضاعف بعد التشهير به بعد ان بعثروا فراشه وشمشموا ثيابه ودلقوا سمعته ورسموا الكدمات على جسده وساقوه الى المحكمة. وفي المحاكمة لم يفقد تماسكه ورباطة جأشه ولم يتردد وهو في القفص ان يرفض دور المتهم وقرر ان يلعب دور المدعي العام ضد الذين يتعاملون مع الوطن وكأنه مثل قوارير الفخار بينما هم في الحقيقة مجرد تماثيل من عجين. لكن اقوى ما في هذا الرجل زوجته... انها طبيبة عيون اسمها عزيزة وجهها على شاشات التلفزيون سيبدو رغم المحنة صافيا مثل وجه راهبة فاجأتها السيدة العذراء بالظهور وهي تصلي... ام لستة اطفال لا يقدرون على مواجهة مجتمع تحكمه ألعاب التشهير وقد اعلنت خوفها من حقن زوجها بفيروس الايدز حتى يثبتوا عليه تهمة الشذوذ واعلنت انها ستواصل قيادة حركة الريفورماس او الاصلاح التي كونها زوجها بعد خروجه من السلطة وتقديمه الى المحاكمة ولم تتردد في القول انها لن تفاجأ لو ألقوا القبض عليها بتهمة القيام باعمال منافية للآداب فعندما تختلط السياسة بالفساد يكسب الفساد. وترفض الدكتورة عزيزة التحدث الى الصحافة المحلية لأن القصص التي ترويها تتدخل فيها الحكومة ولانها لا تجرؤ على نشر ما تقوله في اجتماعاتها مع انصار زوجها... ان الحكومة سرقت الله في هذا الوطن الطاهر الذي يعيده ويتضرع اليه. ومهما كانت حقيقة ما فعله انور ابراهيم فانه يعاقب في الواقع على جريمة اكبر وهي مواجهة الفساد وهي جريمة لا تغتفر في كثير من الاحيان وعقابها اشد من القتل... عقابها السحق المعنوي تشويه السمعة وتسويد كل البياض... لكن الشعوب سرعان ماتعرف الحقيقة وان كانت لا تعرفها غالبا الا بعد فوات الآوان.