كان اسماعيل الحبروك يخشى ان يتكلم مع احد في مكان مغلق, مكتب, او بيت, او سيارة, واسماعيل الحبروك كان صحافيا وشاعرا وروائيا رقيقا وحساسا ومبدعا, وقد اقترح على زميله في صحيفة (الجمهورية) ناصر الدين النشاشيبي ذات مرة ان يتمشيا معا في ملاعب نادي (الجزيرة) ليأخذا حريتهما في الكلام بعيدا عن الرقيب واجهزة التسجيل وجاءت سيرة الصراع الحاد بين هيكل ومصطفى امين, وكان ضمن ما قاله اسماعيل الحبروك عن هذا الموضوع: ـ على الباغي تدور الدوائر لقد ارسل مصطفى وعلي امين هيكل في صيف 1947 ومعه المصور محمد يوسف الى قرية القرين في منطقة الشرقية لكي يكتب عن انتشار وباء الكوليرا, وظن مصطفى امين ان هيكل لن يعود من هذه الرحلة الا وهو مصاب بالكوليرا فيموت ويخلص منه, وعندما لم يمت هيكل ارسله (اولاد امين) كمندوب عسكري الى غزة وبيت لحم في حرب فلسطين, وقال مصطفى امين: ان هيكل سيعود جثة هامدة, ولكنه عاد سالما, لامعا, على قدميه.(1) وبالقطع, يصعب قبول مثل هذا التفسير في ذلك الوقت المبكر في علاقة هيكل بأصحاب (اخبار اليوم) فهو من ناحية لم يكن في حالة صراع بينه وبين مصطفى امين, ومن ناحية ثانية هو الذي طلب السفر بنفسه الى القرين, موطن وباء الكوليرا, ومن ناحية ثالثة كان في ذلك الوقت يعتبر تلميذا نجيبا متفوقا في مدرسة (اخبار اليوم) , وفي مدرسة (اخبار اليوم) يحرص الصحافي على تجديد مصادر اخباره, وان يضيف اليها, وان لايكتفي بمصادر الدرجة الثالثة او الثانية, بل عليه ان يصل الى مصادر الدرجة الاولى, رؤساء الوزارة, وزراء الخارجية, سفراء الدول الكبرى, زعماء الاحزاب السياسية, وفي هذه المدرسة لايحتفظ الصحافي بأسرار, فهو قد حصل عليها لينشرها, واذا لم يحصل عليها فلا مفر امامه سوى ان يترك الصحافة ويعمل في السباكة, وفي المقابل كان المحرر في (اخبار اليوم) ملكا في هذه المملكة او على الاقل اميرا, راتبه مثل راتب الوزير, وراتب الكاتب الجيد مثل راتب رئيس الوزراء, انها مدرسة تجعل الصحافي المنتسب اليها يعيش في احلام سعيدة وخيالات كبيرة وطموحات واسعة (فهو بقلمه قادر على ان يشعل ثورة وان يقيل وزارة وان يدفع رئيس وزراء للانتحار وان يتزوج بنت السلطان) . (2) والحقيقة ان هيكل ـ الذي تعود على حياة الخطر منذ ان ذهب يغطي معارك الحرب العالمية الثانية في العلمين ـ هو الذي طلب بنفسه من علي امين ان يفتح امامه باب التحقيق الصحافي خارج الحدود, ويشهد هيكل ان علي امين تحمس, ويشهد ايضا: (انه لم تكن هناك دار صحافية اخرى في مصر وقتها على استعداد للمجازفة بمثل هذه الفرصة لاحد محرريها غير اخبار اليوم) .(3) والحقيقة ان الموت هو الوجه الآخر للحياة, والخطر هو توأم المغامرة الصحافية, هيكل يعرف ذلك جيدا, وقد عاشه كثيرا, فهو كاد ان يقتل في حرب فلسطين لانه لم يكن يعرف كلمة سر الليل التي لايسمح بدخول المعسكرات المصرية الا لمن يعرفها, ويمكن طعن او اطلاق الرصاص على من لايعرفها, وقد قال: ان اكثر متاعبه في فلسطين سببها هذه الكلمة (كلمة سر الليل) تكون سائرا ذات مرة وتضل الطريق او تتأخر ثم تبغي العودة قبل ان يشتد بك الظلام وفجأة يبرز امامك جندي كالعفريت ويصوب السونكي الى صدرك تماما, ثم يصرخ فيك بأعلى صوته: كلمة سر الليل... وقد تكون تعرفها فتهمس بها اليه وانت تجمع اوصالك المبعثرة, وقد تكون لاتعرفها وفي هذه الحالة لن تقرأ ما أكتب لأن سكان الجنة من الشهداء الابرار لا يقرؤون الصحف ولا المجلات) .(4) ويروي هيكل انه كان عائدا من عمان الى القاهرة جوا, وبينما الطائرة تحلق فوق (بئر السبع) هرع الى كابينة الطيار ليتابع معه خط السير على الخريطة, واستمع معه الى الاشارات التي تنبعث من جهاز الراديو, صادرة من محطات اللاسلكي التي يستخدمها الجيش المصري في فلسطين, وكانت الاشارات سيلا لاينقطع, ولكنه سيل غامض لاتستطيع ان تفهم منه شيئا, مثل (محمود ـ بط ـ سيد ـ 12 ـ 15 ـ 1 ـ في الفجر) وفجأة بدأت الريح تعصف واذا بالطائرة تدخل في ضباب اصفر كثيف وتكافح كما لو كانت ذبابة اطبقت عليها خيوط عنكبوت قوي فبدأت تهتز وتترنح, وكان معظم من في الطائرة الصغيرة من طراز هافيلاند من السيدات الفلسطينيات اللاجئات العجائز, وبصعوبة شديدة هبطت الطائرة هبوطا اضطراريا بعد فراغ البنزين وكان ذلك في قاعدة عسكرية بريطانية, وبعد تسوية امر الهبوط بلا اذن رفضت القاعدة مد الطائرة بالبنزين مالم تدفع ثمنه وكان 15 جنيها, ودخل هيكل للاجئات الفلسطينيات يشرح لهن القصة ويطلب حصتهن من ثمن البنزين, لكنهن هززن رؤوسهن وقلن: (ليس معنا مصاري) ومصاري تعني فلوسا بلغة الشوام, وهدد الطيار بأنه اذا لم يدفع ثمن البنزين فان الانجليز سيسلمونهم لليهود, فصرخن وتساءلن كيف؟ فرد هيكل بلهجتهن (هيك.. لان ما في مصاري) وبعدها ظهرت المصاري, ولكنها لم تسلم للطيار الا بعد ان تعهد كتابة بردها في مطار القاهرة, ووصلت الطائرة القاهرة, وفتح بابها ونزل الطيار ووراءه عدة صيحات تسأله (وين المصاري؟) .(5) وراء الحدود لمدة خمس سنوات, ما بين عام 1947 وعام 1952 انطلق هيكل في تحقيقاته الخارجية وراء الحدود, راح يغطي انصهار الحديد والدم بين العرب والاسرائيليين في حرب فلسطين من اولها لآخرها, وانقلابات سوريا التي كان نظام الحكم فيها يتغير كما تتغير الافلام في دور السينما, والحرب الاهلية في اليونان بكل ما فيها من احزان وجبروت, وثورة مصدق في ايران, وصراع الشرق المسلم والغرب العلماني في تركيا, وعمليات الاغتيالات الكبرى التي اجتاحت المنطقة, من اغتيال الملك عبدالله في القدس إلى اغتيال رياض الصلح في عمان, إلى اغتيال حسني الزعيم في دمشق. لقد اتسعت المسافات, وتمددت أمام عينيه وتحت قدميه, ولكن ذلك لم يحرمه من الرؤية الشاملة التي تربط مصائر وأقدار البشر في المنطقة التي نعيش عليها, ولعل حركة الجغرافيا الصحافية في تلك الأيام هي التي نبهته لواقع الجغرافيا السياسية, ولعلها هي التي تجعله يشير دائما إلى أهمية النظر إلى الخريطة قبل أن يتكلم على حد قول ونصيحة الزعيم الفرنسي المعروف شارل ديجول. ويجب أن نعترف أن هيكل في رحلاته الخارجية المبكرة كان قادرا على الاحتفاظ بمصادره الصحافية للاستفادة منها فيما بعد, كما انه عرف فضيلة كتابة المذكرات اليومية عن الأحداث والشخصيات التي تصادفه, وهو ما جعل ذاكرته سليمة وحية وجاهزة للاستيقاظ في أي وقت يشاء, والأهم من ذلك ان هيكل لم يكتف بأن يرى ويسمع ويكتب فقط مثل معظم المراسلين في العالم, وإنما كان يرى ويسمع ويقرأ ثم يكتب, والقراءة هي الرصيد الحقيقي للصحافي, وهي الجسر الذي ينقله من موقع المراسل إلى مكانة الكاتب, إن كثيرا من المراسلين أخذوا الفرصة نفسها التي أخذها هيكل في تغطية الأحداث التي غطاها, وكانوا بارعين في التغطية الصحافية, لكنهم لم يتجاوزوها بالقراءة والتأمل والتفكير للرؤية السياسية, فلم يزد عمرهم على عمر الحدث الذي غطوه. لقد سبق هيكل إلى فلسطين معظم من سبقوه في كبش البريق الصحافي, محمود أبو الفتح, ومحمد التابعي, واميل زيدان, وإحسان عبدالقدوس الذي جاء إلى القدس في يونيو 1945 وكان متحمسا لمعرفة القضية الفلسطينية فقابل زعماءها, كما قابل ديفيد بن جوريون (أول رئيس حكومة اسرائيلية فيما بعد) وموشى شاريت (أول وزير خارجية لاسرائيل فيما بعد) وكان تفسير إحسان عبدالقدوس هو ان هذه اللقاءات تجعلنا نعرف العدو بدقة, وبعد أن نشر هذه اللقاءات, تلقى إحسان عبدالقدوس أول اتهام بالخيانة يحظى به صحافي مصري وطني يعشق فلسطين حتى النخاع, ويبدو ان الهجوم عليه كان أشد من أن يحتمله, فقد راح يردد بعدها (كفاية سياسة... أنا رجل فنان) (6). على الرغم من انه فيما بعد حقق شهرة واسعة بسبب فلسطين عندما نشر ما وصف بقضية (الأسلحة الفاسدة) وطالب بمحاكمة مجرمي الحرب في فلسطين الذين تسببوا في هزيمة الجيش المصري هناك. ولا جدال في ان الأحداث والمناطق التي غطاها هيكل في رحلاته الخارجية المبكرة هي التي وضعت له أساس اهتماماته التي ظل يرعاها طويلا فيما بعد, وربما إلى الآن, وعلى رأسها بالقطع قضية فلسطين, وكيان اسرائيل, ومستقبل الشرق الأوسط, إن عمر اهتمامه بهذه القضية هو عمر القضية نفسها. الوعي والإرادة لقد بدأ اهتمام هيكل بفلسطين بعد عودته منها أول مرة وبعد أن كتب أولى سلسلة تحقيقات عنها بعنوان (النار فوق الأرض المقدسة) . وهي مجموعة المقالات التي سبقت دخول مصر حرب فلسطين في عام 1948. وظل هذا الاهتمام حادا ومنتبها حتى وصل بعد 50 سنة إلى كتابه المنشور في ثلاثة أجزاء (المفاوضات السرية بين العرب واسرائيل) . ثم أعقبه بكتاب (عروش وجيوش) وهو قراءة في يوميات الحرب في فلسطين. إن فلسطين بالنسبة له لم تكن قضية عربية وإنما كانت قضية وطنية مصرية, كما ان قيام دولة اسرائيل على أرض فلسطين في وسط العالم العربي وفي قلبه كان الحدث الأكبر بالنسبة لشعوب الأمة العربية وفوق أرضها على امتداد واتصال القرن العشرين. (ان الأمة (العربية) قضت النصف الأول من ذلك القرن تحاول بكل وسائلها اعتراض ومنع قيام دولة اسرائيل, ثم ان الأمة (العربية) قضت نصفه الآخر تحاول وبكل طاقتها حصر هذه الدولة وضبط آثار وتداعيات قيامها, وقد كانت الأمة العربية على حق ولكنه حق افتقد الوعي أحيانا وافتقد الإرادة أحيانا وافتقد كلا من الوعي والإرادة في أحيان كثيرة) (7). ولو قرأنا ما كتبه هيكل منذ أكثر من نصف قرن عن فلسطين لفهمنا الأسس التي قامت عليها اهتماماته بهذه القضية التي هي جوهر وقلب كل قضايا ومتاعب ومشكلات وهموم السياسة في الوطن العربي. وقد مرت السنين ـ على طولها ـ وكأن شيئا لم يكن, وكأن أحدا لم يتعلم. في عدد رقم (11) من مجلة (الكتب وجهات نظر) الصادر في أول ديسمبر 1999 كشف هيكل سرا أصاب كل من قرأه بالدوار.. هو ان أحد القادة العرب كان يترك المخابرات الاسرائيلية (الموساد) تتجسس على مؤتمرات القمة العربية التي عقدت في الدار البيضاء, بما في ذلك الجلسات المغلقة والسرية للملوك والرؤساء العرب, وقبل 50 سنة. وفي عدد (آخر ساعة) رقم (757) بتاريخ 26 ابريل 1949 يكشف سرا من ذلك الطراز الدوار, هو ان سكرتارية الأمم المتحدة كانت تتجسس على العرب لصالح اليهود, فقد اختارت سائقين يهودا ليقودوا سيارات الوفود العربية, وبعد أن تسربت القصة للوفود العربية قدم الأمير فيصل بن سعود احتجاجا للسكرتير العام للأمم المتحدة تريجفي لي. وطلب منه أن يستبدل بسائقه اليهودي سائقا مسيحيا غيره, وقبل تريجفي لي الطلب, ثم لم تلبث حرم الأمير فيصل أن اكتشفت بعد يومين أن سائق سيارتها هو الآخر يهودي. وفي (آخر ساعة) أيضا ولكن في عدد رقم (764) بتاريخ 15 مايو 1949 يكشف هيكل سرا جديدا من الطراز المثير للدوار, هو ان المتطوعين العرب في حرب فلسطين بعد أن فرغوا من معركة (كفار عصيون) نجحوا في أسر 143 فتاة يهودية كن يحاربن في صفوف الهاجاناه, ونقلت الأسيرات إلى مدينة الخليل بحثا عن مأوى لهن, فاقترح واحد من مشايخ فلسطين هو الشيخ الجعبري أن يضع الأسيرات في مخزن يملكه, وبعد أن وصل خبر الأسيرات إلى الملك عبدالله قرر نقلهن إلى عمان, وانتدب ضابطا أردنيا برتبة صاغ (رائد) اسمه حكمت مهيار كي يتسلم الأسيرات وينقلهن من الخليل إلى عمان, وعند التوقيع على الاستلام وجد الضابط الأردني ان عدد الأسيرات 140 فتاة, ولم يستطع الشيخ الجعبري أن يفسر أين اختفت اليهوديات الأسيرات الثلاث؟ وفي (آخر ساعة) كذلك ولكن في عدد (667) بتاريخ 6 يوليو 1949 يكشف هيكل مهازل القيادة العربية في حرب فلسطين, لقد سبقت الجيوش النظامية الى فلسطين ما كان يعرف بجيوش التحرير, وكان قائد هذه الجيوش هو الجنرال اسماعيل صفوت باشا, وقد استدعوه من بغداد لتعهد اليه الجامعة العربية بقيادة جيوش التحرير العامة. وفي اليوم التالي لوصوله القاهرة حدثت قصة افقدت الناس الثقة في كفاءته العسكرية, والقصة للأسف مسجلة في محاضر البوليس, وتتلخص في ان الجنرال غداة وصوله الى القاهرة خرج يتجول في شوارعها, وبينما هو يتمشى في شارع (ابراهيم باشا) ابصر بعض الغلمان يجلسون عند ناصية الطريق المؤدي الى كلوت بك يلعبون لعبة الثلاث ورقات المشهورة, ووقف الجنرال يتفرج عليهم, وما لبث الغلمان ـ لاعبو الثلاث ورقات ـ ان استدرجوا قائد عام جيوش التحرير العربية لانقاذ الارض المقدسة الى مشاركتهم في لعبة الثلاث ورقات, وبعد خمس دقائق كان الجنرال قد خسر كل ما معه من نقود وهو مبلغ خمسة واربعين جنيها, وهو بالقطع رقم قياسي في تاريخ هذا النوع من المقامرة الشعبية. وأحس الجنرال انه سرق او على الاقل سقط في فخ عصابة من المتشردين, وحاول ان يسترد نقوده منهم فلم يستطع, وحاول بعضهم الجري فجرى وراءهم الجنرال وامسك بهم ثم صاح يستدعي البوليس, وحرر محضرا بالواقعة, لكن الجامعة العربية تدخلت لمنع نشر الخبر في الصحف, رفقا بسمعة الجنرال وابقاء على هيبة منصبه كقائد لجيوش التحرير العربية لانقاذ الارض المقدسة من اليهود. وفي فلسطين حاول هيكل ان يقابل الجنرال, لكن قائد جيوش التحرير العربية لم يكن في فلسطين ولم يسافر اليها وكان يدير المعارك من المآدب الفاخرة التي كانت تقام له في القاهرة ودمشق وبغداد وعمان, وكان مقر قيادته في عمان مخزنا للدقيق يملكه احد اصدقائه هو صبري الطباع, وبين اكوام الدقيق لاحظ هيكل اندماج الجنرال في تدخين الشيشة, ولاحظ وقوف سيارة لوري امام المخزن, وجاء منها رجل قال للجنرال: لم نستطع اليوم ان نؤجر اكثر من ثلاثين, وقال الجنرال: شيعهم على رام الله... وتبين ان قيادة جيوش التحرير تؤجر الفلاحين والعمال وترسلهم ـ هكذا بلا تدريب ـ لمحاربة اليهود, وقبل ان يتحرك اللوري صاح الجنرال براكبه: لا تنس ان ترسل لوري آخر الى جنين وأجروا خمسين بأسرع ما يمكن! وعاد الجنرال ينفث دخان الشيشة الازرق في هدوء وراحة بال. ويقول هيكل: ويبدو ان عقلية القائد العام كانت المثل الاعلى لمرؤوسيه من القادة المحليين في فلسطين. كان يقود جبهة القدس في ذلك الوقت ضابط قديم في الجيش العراقي هو عبدالحميد الراوي بك وكان يقود ما اسماه يومئذ جيش اليرموك تيمنا بجيش خالد بن الوليد. وذهبت اقابله وكان قد عاد لتوه من معركة في رام الله, وجلس يحدثني وهو يشرب الشيشة ايضا عن المعركة التي خاضها, وقلت له : ألا استطيع ان أراها على الخريطة؟ فقال ببساطة: اننا لا نستعمل الخرائط, نحن بتوفيق الله نستغني عنها, وسكت ولم اقل شيئا, واستمر في حديثه عن المعركة, ثم انتهى بقوله: وعلى اي حال لا تحاسبنا عما صنعناه بالأمس, وانما حاسبنا على ما سوف نفعل غدا. وسألته: وما هو السبب؟ وألقيت هذا السؤال وفي ذهني انه لابد ان يكون قد حصل على اسلحة جديدة او امدادات جديدة... واجاب هو بالبساطة نفسها: لقد كنت امس اتخذ مقر قيادتي في حجرة عادية ولكني اليوم نقلت قيادتي الى الروضة الشريفة في المسجد الاقصى, ولم اقل شيئا لقائد جيش اليرموك ولم اردد الحكمة التي تقول (ان الله لا يساعد الا اولئك الذين يساعدون انفسهم) . الضبع الأسود لكن الاهم من هذه الاسرار التي تثير الدوار هو تغطية هيكل لوقائع الحرب في فلسطين ولوقائع الصراع العربي الاسرائيلي في لحظة (الخلق الاولى عندما وقع الانفجار وتمددت كتلته وبدأ زمانه) . (8) لقد سافر هيكل الى فلسطين اول مرة بعد صدور قرار الجمعية العامة للامم المتحدة بتقسيم فلسطين في عام .1947. وفي الشهور الاولى من عام 1948 عاد الى فلسطين مرة اخرى يتابع ما يجري (وأعيش فيه بقلبي وليس بقلمي فقط, ورأيت حيفا تسقط ورأيت يافا تحاصر وتركت حي (القمطون) في آخر سيارة غادرت القدس الى عمان) . ويستطرد هيكل: (وبقيت مع حرب فلسطين حينما اعلنت رسميا بعد ذلك متنقلا بين مواقعها من بيت لحم والخليل مع قوات المتطوعين ـ الى المجدل واشدود مع مجموعة الجيش الرئيسي التي تقدمت على الطريق الساحلي ـ الى قوات عراق المنشية والفالوجا على طريق شمال النقب, ثم سافرت الى باريس في شهر اكتوبر 1948 لتغطية اجتماعات مجلس الامن الطارئة لإقرار الهدنة في فلسطين, واخيرا وجدتني في فندق الزهور (أوتيل دي روز) في رودس حيث جرى توقيع اتفاقيات الهدنة في مطلع سنة 1949. هكذا عشت حرب فلسطين من اول يوم الى آخر يوم) . (9) بل اكثر من ذلك لم يتردد هيكل في الكتابة عن المفاجآت الانسانية في حرب فلسطين, كتب عن ابطال الفالوجا (راجع (آخر ساعة) عدد رقم 744 بتاريخ 26 يناير 1949) وكتب عن ايامهم الاخيرة تحت الحصار (راجع (آخر ساعة) عدد رقم 745 بتاريخ 2 فبراير 1949) وكتب عن جرحاهم الذين نقلوا الى ارض الوطن (راجع العدد نفسه) وغطى استقبالهم في شوارع القاهرة تحت عنوان: السماء تمطر وردا وشوكولاته في يوم الفالوجا (راجع (آخر ساعة) عدد رقم 746 بتاريخ 9 فبراير 1949) ونشر قصة الطيار عمر شكيب الطيار المصري الذي عاد الى الحياة بعد ان اصيب برصاصة في قلبه واعتبر في عداد الشهداء (راجع (آخر ساعة) عدد رقم 747 بتاريخ 16 فبراير 1949) ونشر مقالا في الذكرى السنوية الاولى لاستشهاد الفدائي احمد عبدالعزيز وصفه فيه بأنه كان شهابا لمع في حياة بلده ومر مرورا خاطفا, ثم مضى (ولقد مضى اليوم عام منذ اختفى الشهاب, ومع ذلك ما اكثر الضوء الذي تركه وراءه, انه ما زال حتى اليوم ينير الطريق لكثيرين, وسوف ينيره غدا, وبعد غد, والى الابد ما بقيت في حياة مصر مثل عليا) (راجع (آخر ساعة) عدد رقم 774 بتاريخ 24 اغسطس 1949). ونشر مذكرات الاميرالاي (العميد) السيد طه او (الضبع الاسود) قائد القوات المحاصرة في الفالوجا, ثم وبعد عدة شهور اختفى الضوء الذي كان مسلطا على الرجل, بل وكان ان راجت الشائعات انه معتقل في الطور, فكتب هيكل: (ضبع الفالوجا ليس معتقلا في الطور) .. وقال: انه ما من سبب او نصف سبب يدعو الى اعتقاله بل على العكس (ثم حرام ان تروج الشائعات بهذا الشكل عن الرجل الذي كافح بجيشه في احلك الاوقات عدوا يفوقه عددا وعدة كل هذا لمجرد انه لم يعد يرى كما كان من قبل. صحيح ان الضوء العام لم يعد مسلطا عليه كما كان مسلطا عليه عقب عودته. وهذا طبيعي لا غرابة فيه. ان الضوء العام متحرك دائما ولا يجوز ان يبقى مسلطا الى الابد على شخص واحد, كان يجب ان تبعد اذن الضوء عن ضبع الفالوجا وان يترك الرجل ليعود الى عمله يؤديه في صمت وهدوء دون ان يفهم من هذا ان السيد طه لم يعد موضع تقدير وطنه, ان الاميرالاي السيد طه بك يقيم الآن في منقباد قرب اسيوط ومنقباد هي مقر اللواء الاول من الوية الجيش المصري. واللواء الاول يعد ليكون طليعة الجيش, ثم هل استطيع ان اضيف شيئا آخر؟ لا, ان الباقي اسرار عسكرية لا يجوز التحدث بها) . ولعل اهم ما فعله هيكل في تلك الفترة المبكرة من عمر القضية الفلسطينية هو اهتمامه بنشر الدراسات والتقارير الجادة عن اسرائيل.. او (العدو الذي حاربناه) على حد العنوان الذي نشره في آخر ساعة في عدد 773 بتاريخ 17 اغسطس 1947. وقد قال هيكل في مقدمة التقرير (هذه لمحة سريعة عن العدو الذي حاربناه امس, والذي قد نعود الى محاربته في اي دقيقة, ان المعركة لم تنته بعد ونحن في حاجة الى هذه اللمحة السريعة عن حياة عدونا ـ وفي حاجة الى اكثر منها ـ فإننا نريد ان نعرف العدو الذي حاربناه والذي قد نحاربه, نريد ان نعرف عنه كل شيء, من هو وكيف يعيش وكيف يفكر وماذا يقرأ, من هذا كله نعرف كيف سيحاربنا واهم منه.. كيف نستعد له حتى نلقاه؟) . وبعد اسابيع نشر هيكل تقريرا آخر عن اسرائيل كان مزودا بالوثائق والرسوم التوضيحية والاحصائيات. واهتم بإبراز ان عدد سكان اسرائيل كان وقت اعلان الدولة حوالي 750 ألف نسمة, وأن الجيش ارتفع عدده من 12 ألف جندي الى 120 ألفا خلال 6 أشهر بعد قيام الدولة ومن بين السكان يعيش 35 ألفا في اكشاك خشبية مؤقتة ويعيش 80 ألفا في خيام و70 ألفا يعيشون في قرى عربية و200 ألف يسكنون بمعدل خمسة افراد في كل غرفة و75 ألفا يعيشون في المستوطنات, وقد تغيرت الصورة فيما بعد, وكان هيكل حريصا على متابعة ذلك, وكان اهم مشروعاته في مؤسسة الاهرام هو انشاء مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية وهو المركز الذي تأسس تحت شعار معرفة العدو على اثر هزيمة يونيو 1967. الرقابة وشوارب الوزير لقد كانت فلسطين هي (القصة الرئيسية) في شباب هيكل, وظلت كذلك فيما بعد, (فيما وراء الصبا والشباب) . ولم يتابع هيكل القصة الرئيسية فقط, وانما تابع عواقبها وتداعياتها التي توالت في صور اغتيالات وانقلابات. لقد سارع بتغطية انقلاب حسني الزعيم الذي اطاح بشكري القوتلي, ثم سارع بتغطية انقلاب سامي الحناوي الذي اطاح بحسني الزعيم وانتهى باعدامه, وقيل ان حسني الزعيم كان شجاعا وهو يتلقى رصاصات اعدامه, وقيل ان سر شجاعته هو انه كان غرقا في الخمر, وبعد 3 ساعات من الانقلاب الاخير قابل هيكل ارملة حسني الزعيم والتقط لها محمد يوسف صورا حزينة مع شقيقتها, ونشرت (آخر ساعة) الصور في صدر العدد 774 المنشور في 24 اغسطس 1949. وفي الاسبوع التالي كتب هيكل عن متابعة مع الرقابة السورية في تلك الظروف العصيبة فقال: (كانت الرقابة العسكرية في سوريا اكثر صرامة من شوارب وزير المعارف المصري, كان من المستحيل اذا عرضت على الرقيب رسالة من ألف كلمة ان يترك لك منها غير عشر كلمات, معظمها من حروف الجر والاضافة وعلامات التعجب والاستفهام, ثم اكتشفت وسيلة لتهريب الرسائل هي ارسالها عن طريق بيروت, وفي اليوم التالي من ايام الانقلاب كانت هناك رسالة لا يمكن ان يجيزها الرقيب, واخذها احد الزملاء فعبر بها الحدود الى بيروت ومن هناك ابلغها باللاسلكي الى القاهرة, وبعد نصف ساعة كنت واقفا امام رجال المكتب الثاني احاسب حساب الملكين.. وقلت ببساطة: هذه رسالة زميلي وليست رسالتي, وما ذنبي انا اذا كان هو ارسل مثل هذه الرسالة ومن بيروت, وانا في دمشق, وخرجت من المكتب الثاني وقبل ان اغادر الباب كان هناك امر بحجز زميلي اذا عاد مرة ثانية الى اراضي سوريا, وكنت اعلم انه سيعود, وانتظرته بالليل انذره بالخطر ليعود عبر الحدود الى لبنان, وكانت قصة ليس هذا وقتها على اي حال) . (وفي الصباح فوجئت بأحد رجال المكتب الثاني يقول: شرف معي, قلت: على عيني ورأسي وشرفت, وكانت هناك قائمة طويلة ملأى بالاسئلة وكانت اجاباتي كلها مقتبسة من قصيدة الشاعر ايليا ابو ماضي التي عنوانها (لست ادري) ووسط هذا كله كان على الباحثين عن الحقيقة ان يبحثوا عن المتاعب) . لقد بدأ انقلاب حسني الزعيم في بداية عام 1949 وبعد 3 أشهر وقع انقلاب سامي الحناوي ثم قتل سامي الحناوي في بيروت وجاء الى السلطة في دمشق اديب الشيشكلي, لكنه هو الآخر لم يستمر وهرب ليعيش على الهجوم على بلاده. أشرعة ورياح في ذلك الوقت كان هيكل يوصف بلقب (ساحر آخر ساعة) وقد بدأ في كتابة اول باب اسبوعي تحت عنوان (البحث عن المتاعب) . والى جانب عنوان الباب كانت عبارة (فرجينيا كاولز) الشهيرة: (الصحافة هي مهنة البحث عن المتاعب) . وهي العبارة التي يعرفها الناس ولا يعرفون صاحبها. في ذلك الوقت ايضا أدت توابع حرب فلسطين ـ بعد الانقلابات ـ الى اغتيالات, وقتل في القدس وهو على باب المسجد الاقصى الملك عبدالله ملك الاردن برصاصات شاب فلسطين رفض ما جرى في حرب 1948 ورفض اتصالاته بالعدو الاسرائيلي. وفي القاهرة تابع هيكل محاكمات قتلة محمود فهمي النقراشي. لقد ذهب ضحية التطرف الديني, فحرض الاخوان المسلمون شابا هو عبدالمجيد احمد حسن على اطلاق الرصاص عليه, وخرجت الصحف تصف القاتل وشركاءه ـ كما هي العادة في مثل هذه القضايا بلا استثناء ـ بالارهابيين. وكالعادة ايضا كان هناك متهم بإصدار فتوى تبيح القتل, وكان المتهم هذه المرة هو الشيخ سيد سابق. ثم امتلأت اشرعة كثيرة برياح ما بعد العاصفة في فلسطين, وكانت ثورة 23 يوليو 1952 التي كانت الحرب في الارض المقدسة واحدة من العوامل المباشرة لقيامها, ولسنا في حاجة للقول ان هذه الثورة كانت نقطة تحول أو نقطة انقلاب في حياة هيكل, بل لعلها كانت فاصلة بين مرحلتين في حياته, مثل كتاب من جزءين. على الرغم من موضوعه ووحدة مؤلفه الا ان هناك بداية ونهاية مستقلة لكل منهما. الـهـوامـش: (1) النشاشيبي: (قصتي مع الصحافة) ـ مصدر سابق ـ ص 224 (2) هيكل: (بين الصحافة والسياسة) ـ مصدر سابق ـ ص 41 (3) هيكل: المصدر السابق ـ ص 41 (4) مجلة (اخر ساعة) : عدد 769 بتاريخ 20 نوفمبر 1949 (5) مجلة (آخر ساعة) عدد 667 بتاريخ 6 يوليو 1949 (6) النشاشيبي: المصدر السابق ـ ص 74و75 (7) هيكل: (العروش والجيوش) ـ دار الشروق ديسمبر 1998 ـ المقدمة (8) هيكل: المصدر السابق ـ ملاحظة (9) هيكل: المصدر السابق ـ ص 18