ما حدث في نهاية الأسبوع الماضي وبداية هذا الأسبوع في فنزويلا: انقلاب «عسكري مدني» فاشل و «انقلاب مضاد»، وتولي ثلاثة رؤساء الحكم في أقل من أربع وعشرين ساعة، وما رافق ذلك من ردود أفعال سياسية متناقضة بشكل صارخ مع المبادئ السياسية المعلنة لأصحاب هذه الأفعال وورودها بشكل خاص من مؤسسات «ديمقراطية» من خارج البلاد، تكشف بوضوح الى أي مدى وصل الوضع السياسي الدولي في ظل محاولات الولايات المتحدة استغلال هيمنتها على العالم بعد أن أصبحت «القطب الأوحد» الذي يملك مفاتيح الاستقرار والقلق في العالم كله. انقلاب فنزويلا ضد الرئيس المنتخب ديمقراطيا «هوجو تشافيز» لم يكن نتيجة حركة سريعة غير معدة ومخطط لها مسبقا كما يحاول البعض تصويرها، خاصة أولئك الذي خططوا وشاركوا في التنفيذ، ليبرروا الفشل الذريع الذي فاجأهم، ولم يكن في حسبانهم نتيجة الثقة العالية في احكام التخطيط الذي اعتادوا عليه في السابق، بل كان هذا الانقلاب الفاشل الخطوة الأخيرة لعملية بدأ الاعداد لها منذ وصول العقيد السابق «هوجو تشافيز» الى الحكم في ديسمبر عام 1999 بأغلبية ساحقة لم يحققها رئيس منتخب في أمريكا اللاتينية منذ أن تركت دول تلك المنطقة الانقلابات العسكرية التي كانت سائدة طوال النصف الثاني من القرن العشرين واعتنقت مبدأ الديمقراطية الغربية. العودة للماضي من هنا كان غريبا أن يتوقع أحد انقلابا عسكريا تخطط له القوى الخاسرة في مسيرة الرئيس الفنزويلي الجديد الذي يريد أن يعيد بلاده الى زمن الثورات القديم والتغييرات الجذرية التي ترفض قوى الاستعمار القديم والجديد الاعتراف بها، لأنها تضيق الخناق على حركاتها الالتفافية التي نقلت بها سيطرتها على الثروات المحلية للدول المتخلفة من استعمار مباشر بعسكر وجند وسلاح يحتل البلاد الى احتلال مقنع واجهته الجالسون على كراسي السلطة. لكن يبدو أن الولايات المتحدة شط مخططو السياسة الخارجية فيها، فقرروا العودة لزمن الانقلابات لضمان السيطرة على الثروات الطبيعية في فنزويلا، وبشكل خاص البترول الذي تستورد منه ما يقرب من مليون ونصف مليون برميل يوميا، والذي يبدو مطلوبا نظرا للمسافة القريبة لمناطق انتاجه في فنزويلا من السوق الأمريكية الشرهة الى الاستهلاك، وخلال هذا الشطط توقعوا أن يكون تخطيطهم للانقلاب ضد هوجو تشافيز في فنزويلا مجرد نزهة يشارك فيها جنرالات يبحثون عن أطماع شخصية، كما كان معتادا من قبل في أمريكا اللاتينية والتي يشكل الجنرال اوجوستو بينوشيه في التشيلي أحد أهم نماذجها، ولكن هذه المرة كان يجب أن يكون الانقلاب بوجه «ديمقراطي»، وذلك من خلال مشاركة المدنيين المتمثلين في رجال الأعمال في العهد الجديد الذين يرون أن لهم دورا في السياسة الخارجية لبلادهم، بعد أن منحتهم (العولمة) الفرصة للسيطرة على البلاد من الداخل، من خلال القوة التي يتمتعون بها من سيطرتهم على سوق الانتاج والاستهلاك الداخلي، أو المحلي. خلال رحلة البحث عن طريقة لتنفيذ أول انقلاب (مدني ـ عسكري) في أمريكا اللاتينية، وجدت الولايات المتحدة في (بدرو كارمونا) رئيس اتحاد رجال الأعمال رجلها المناسب ليكون الوجه المدني للانقلاب العسكري في فنزويلا، حتى لا تثير بعض القوى العالمية التي تتناقض معها في المصالح، مثل دول الاتحاد الأوروبي التي تحاول الاحتفاظ بورقة توت تغطي توجهاتها الاستعمارية القديمة، وان كانت لم تتخل عنها بشكل كامل، مما يدفعها الى رفض انقلاب عسكري وتفضيل انقلاب (دستوري) يقصي الرئيس المنتخب. لكن مخططي السياسة الخارجية في الولايات المتحدة لم يتوقعوا رفضا لجانب كبير من العسكريين في فنزويلا للعب الدور الثانوي في انقلاب لا يمكنه أن ينجح دون أن يقدموا له الغطاء والحماية، ومعظم هؤلاء العسكريين مثلهم مثل جنرالات كل دول أمريكا اللاتينية من خريجي الأكاديميات العسكرية الأمريكية المعروفة بدورها في اعداد الانقلابيين في العالم كله، ومعروف دورها في اعداد (تلاميذها) بدنيا ونفسيا للعب هذا الدور، من هنا كان من الصعب توقع فشل هذا الانقلاب الذي تم الاعداد الاعلامي له منذ وصول الرئيس هوجو تشافيز الى الحكم بشكل ديمقراطي قبل عامين، وطالع قراء «البيان» على هذه الصفحة تحديدا أكثر من مقال خصصناه للحملة الاعلامية الغربية التي كانت تحاول تقديم الرئيس الفنزويلي تارة على انه شخصية حالمة تعيش في عصر غير عصرها، بعد انتهاء عصر الثورات نتيجة لسقوط جدار برلين والتسليم بالهيمنة الغربية اقتصاديا من خلال تطبيق مبادئ العولمة، وتارة أخرى تقدمه كشخص غير متزن، ويفتقد الى برنامج اقتصادي محدد لاخراج بلاده من الأزمة المالية التي تعصف بها منذ السبعينيات، مع أنه غير مسئول عن تلك الأزمة، وانما كان اختيار الطبقة العريضة من الشعب الفنزويلي نتيجة مباشرة لتلك الأزمة التي تعصف بهم خلال سنوات حكم الأحزاب التقليدية التي لم يكن من عمل لها سوى تهريب الأموال الى الخارج، واستغلت البترول لتثرى على حساب الوطن. تمهيد إعلامي ثم بعد أحداث 11 سبتمبر بدأت وسائل الاعلام الغربية، وفي مقدمتها الاعلام الأمريكي، تقدم الرئيس الفنزويلي على انه (مدافع) عن الارهاب بسبب رفضه تأييد الحرب الأمريكية في افغانستان، ومعارضته علنا لأي عمل عسكري ضد أية دولة في العالم ما لم تقدم الولايات المتحدة أولا: تحديدا واضحا لما تسميه بالارهاب، وثانيا: ما لم تكن هناك أدلة مادية واضحة بأن الدول الموجه اليها العمل العسكري لها علاقة مباشرة بالارهاب. لكن الولايات المتحدة لم تكن في حاجة الى أسباب تدفعها الى اسقاط هوجو تشافيز، لأنها اعتبرته منذ البداية أحد أعدائها المطلوب ابعادهم عن الساحة السياسية في أمريكا اللاتينية، وابرز أسبابها للتعامل معه على هذا النحو تعود الى انه صديق حميم لعدد من الشخصيات الدولية المعادية للسياسات الأمريكية في العالم كله، وعلى رأسهم بالطبع الزعيم الكوبي (فيدل كاسترو) الذي يتفق معه في العديد من المبادئ الثورية، منها تحقيق حلم (سيمون بوليفار) محرر أمريكا اللاتينية في اتحاد واحد يجمع هذه الدول تحت راية واحدة. ثم كانت خطوته التالية لوصوله الى كرسي الحكم اعلانه تقديم مساعدة اقتصادية لكوبا من خلال مدها بالبترول الذي تحتاجه بسعر خاص جدا، هذه الخطوة الجريئة اعتبرتها الولايات المتحدة تحديا لسياستها تجاه كوبا، وخرقا للحصار الذي تفرضه على الثورة الكوبية منذ أربعين عاما. الا أن دور هوجو تشافيز في جمع الدول الأعضاء في منظمة (أوبك) تحت هدف واحد هو الحفاظ على سعر خاص للبترول لا يعرض تلك الدول لخطر انخفاض الأسعار الذي يهدد خططها التنموية، وكان هذا النجاح الذي تكلل بتولي وزير البترول الفنزويلي السابق (علي رودريجيز) منصب الأمين العام لمنظمة الأوبك، وهو أمر لا ترضى عنه الولايات المتحدة الأمريكية، لأنها ترى فيه نجاحا لسياسة هوجو تشافيز دوليا، اضافة الى أنه خلال الجولات المكوكية التي قام بها الرئيس الفنزويلي للتوصل الى اتفاق حول أسعار البترول كسر عددا من المحرمات الأمريكية في السياسة الدولية: زيارة بغداد ولقائه بصدام حسين، وزيارته لليبيا واعلان تضامنه مع العقيد معمر القذافي ضد الحصار الأمريكي المفروض عليه. لكل هذه الأسباب مجتمعة قامت السلطات الأمريكية بوضع الرئيس الفنزويلي هوجو تشافيز على رأس قائمة الشخصيات المطلوب التخلص منها بأي شكل وبأي طريقة، حتى لو تطلب الأمر انقلابا عسكريا على غرار الانقلابات التي كانت تخطط لها وتقود تنفيذها المخابرات الأمريكية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وكانت كلها انقلابات دموية، أبرزها انقلاب 11 سبتمبر عام 1973 في التشيلي الذي نفذته المخابرات الأمريكية تحت الادارة المباشرة لوزير الخارجية السابق هنري كيسنجر، وانتهى بمصرع الرئيس المنتخب ديمقراطيا (سلفادور الليندي) وبدء عصر الدكتاتور الدموي الجنرال بينوشيه. حاولت الولايات المتحدة تنفيذ هذا الانقلاب بالطريقة التي نفذت بها انقلاب التشيلي، كانت البداية متشابهة جدا: غضب شعبي (مصطنع) تقوده بعض النقابات العمالية، وبشكل خاص نقابة عمال البترول، باعتباره القطاع الأكثر تأثيرا في اقتصاد البلاد، يصل الغضب مداه بالتظاهر ويتعرض المتظاهرون لعمل بوليسي من جانب السلطة يروح ضحيته عدد من المتظاهرين، وعندما تصل الحالة الى استحالة استمرار الوضع يأتي الانقلاب العسكري كحل للأزمة. الخاسر الأكبر لكن الوضع العالمي كان يفرض على مخططي انقلاب فنزويلا بعض التغييرات في السيناريو المعد، حتى يمكن أن يكون الانقلاب مقبولا من قوى دولية أخرى مثل دول الاتحاد الأوروبي التي تريد تغييرا له ملامح (ديمقراطية) يحافظ على الشكل (الدستوري)، من هنا كان لابد من مشاركة عنصر جديد، وعثرت على رئيس اتحاد رجال الأعمال الطامح الى لعب دور سياسي مهما كان الثمن، ولكن كان غريبا أو شاذا أن يعلن ممثل رجال الأعمال تأييده لمطالب العمال (!) وهو أمر أثار بالفعل دهشة المراقبين، لأن مطالب العمال تتناقض، بل تتعارض مع مطالب رجال الأعمال، ليأتي بعد ذلك دور الجنرالات، الذين يتدخلون بالسلاح تحت دعوى الحفاظ على وحدة البلاد. لكن تدخل الجيش تطلب (اراقة دماء) وهو أمر لم يكن صعبا بعد قيام بعض الأفراد باطلاق الرصاص على مظاهرة من المفترض أنها ضد الرئيس، بعد ذلك كان الانقلاب الذي كان يبدو طبيعيا خلال الساعات الأولى، خاصة بعد القبض على الرئيس هوجو تشافيز، واقتياده تحت حراسة مشددة الى قاعدة عسكرية. الا أن رجل الأعمال، المدني الذي قفز على مقعد السلطة ارتكب أخطاء لم تكن في الحسبان جعلته يفقد (ورقة التوت الديمقراطية) المطلوبة للحصول على تأييد دولي، وبشكل خاص تأييد جماعي من جانب دول الاتحاد الأوروبي، لأن قراره بحل البرلمان والغاء كل الضمانات الدستورية في البلاد قبل أن يسيطر الجيش على أي هيئة حكومية وضعه موضع الشك، لذلك لم يحصل سوى على تأييد أوروبي (غامض) جاء على لسان المتحدث الرسمي لرئيس الوزراء الاسباني، ولم يجرؤ على الحديث باسم (الاتحاد الأوروبي) على الرغم من أنه رئيس الدورة الحالية للاتحاد. التأييد الأمريكي السريع من جانب المتحدث الرسمي للرئيس بوش لم يكن كافيا في ظل صمت الدول الأمريكية اللاتينية المجاورة، والتي أعلن بعضها عن شكه في النوايا الحقيقية للانقلابيين وتخوف من عودة المنطقة الى زمن الانقلابات البغيض، كل هذا أدى الى تراجع بعض العسكريين عن المضي في انقلاب لا يعرف أحد الى أي طريق يؤدي. كل هذه الظروف التي أحاطت بانقلاب فنزويلا كانت نتيجتها هروب الانقلابيين حتى قبل أن يعرفوا أنهم فشلوا في السيطرة على الوضع، وعودة ظافرة للرئيس الذي كان من المفترض أنه تحت حراسة مشددة. أيا كانت أسباب فشل الانقلاب العسكري ـ المدني الذي قاده بعض الجنرالات ورجال الأعمال الموالين للولايات المتحدة ضد الرئيس الفنزويلي هوجو تشافيز، فان المؤكد أن الولايات المتحدة كانت الطرف الخاسر في كل هذه العملية، وتحول الانقلاب الى علامة تثير العديد من التساؤلات حول سياستها المستقبلية في أمريكا اللاتينية بعد هذه الصفعة التي تلقتها في كاراكاس، مهما حاولت التنصل من علاقتها بمخططي ومنفذي هذا الانقلاب الفاشل. ـ كاتب مصري مقيم في اسبانيا