جاء في لسان العرب أن «المكان» يأتي بمعنى موضع الشيء، أي المحل الذي يحل فيه. فالمكان بوصفه حيزا جغرافيا، انما يفهم منه اتساع النظر إلى الفضاء الذي يحيط به ويؤشر لموقعه قياساً إلى شيء آخر.

وهنا فالمكان يمثل جميع العلامات الجغرافية التي ترتبط بتشكيل خصائص المكان وهوية الإنسان أو المجموعة البشرية التي تعيش عليه، حيث نسجت العصور ملامح لعلاقة فريدة بين الإنسان والمكان الذي يقطنه، تجسدت عبر العديد من الدلالات مثل الاطمئنان والاستقرار والراحة والشعور بالحب والأمان الذي يمنحه هذا المكان لساكنيه، ومن ثم ارتقى هذا المفهوم إلى ما اصطلح على تسميته «الوطن»، ضمن جدلية العلاقة التاريخية بينهما، حيث أشارت الوقائع التاريخية إلى أن الإنسان ارتحل عن أمكنة عديدة، حينما لم يعثر فيها على مقومات الأمن والاستقرار.

وفي المقابل نجد أن الإنسان عندما توفرت له دعائم الاستقرار، استطاع أن ينتج لنا أنماطاً متعددة من السلوك الإنساني الراقي، ومنحتنا جملة من التفاعلات الحية صروحا حضارية ومنجزات إبداعية، مثلما رأينا شواخص وشواهد عمرانية وإنسانية تمثلت في حضارات مأرب في اليمن وأهرامات مصر ومدن بابل وآشور في العراق وتدمر في الشام والبتراء في الأردن، وغير ذلك كثير من الشواهد الاخرى في وطننا العربي الكبير.

أما على الصعيد الحسي والعاطفي فإن شعوراً يتسلل عميقاً في وجدان الكائن الإنساني، يترك آثاراً عميقة في مستويات الذات ليصير جزءاً حميمياً منه، وذلك كون ان المكان هو المجال الحي الذي يحتضن كل عمليات التواصل والتفاعل بين الإنسان والعالم الذي يحيط به.

واستناداً إلى هذه الحقيقة فأن كل ما يفعله الإنسان في المكان «الوطن» من انشطة عمرانية وزراعية وصناعية وثقافية، هو ما يمكن ان ندعوه بعملية التفاعل بين الإنسان والمكان. وبقدر ازدياد مستويات هذه التفاعلات يتنامى شعور الارتباط بالوطن والولاء له.

هذه الحقائق جميعها تشكل عناصر حيوية تسهم في نسج وصياغة الهوية الوطنية، وهذه الهوية لا يمكن التعبير عنها، إلا عندما تتفاعل عوامل التاريخ والجغرافيا وإبداع الإنسان في الطرق والوسائل التي يستخدمها للتغلب على التحديات والصعوبات التي تقف في طريقه، عند محاولته تذليل العقبات أو ابتكار وسائل تساعده على العيش والحماية في المكان.

سيما عندما ترتقي صيغ العمل والإبداع إلى طريقة رسم مسارات الشعوب في اتجاه تحقيق تطلعاتها لمستقبل مشرق. ولذلك نجد انه في جميع بلدان العالم، يقاوم الإنسان أي عملية تمس بعاداته وتقاليده ومنظومته القيمية، ويعتبر ذلك بمثابة اعتداء على هويته الثقافية والوطنية، التي تكونت عبر حصيلة طويلة من تفاعل الفرد مع المكان الذي سميناه «الوطن».

لكن من الطبيعي أن نجد حركة النمو والتطور والتقدم المعرفي، تدفع بالإنسان أياً كان موقعه ومجتمعه وطريقة عيشه، إلى العمل على تهذيب وتشذيب بعض عاداته وأعرافه وتقاليده الاجتماعية السائدة، وهي محصلة طبيعية لعملية الاحتكاك الحضاري والقيمي.

كما انها تعد سلوكا طبيعيا يقوم به الفرد تلقائياً، بعد مرور كل مرحلة أو فترة زمنية، وبالتالي فإن الواقع يفرض على الجميع التعايش في إطار عالم واسع وفسيح يقوم على التنوع والاختلاف.

وهنا لا بد من التأكيد على أهمية استمرار عنصر المحافظة على ركائز الخصوصية الوطنية والقومية لأي شعب، فالهوية كعنوان ومضمون تتأصل في ظل عملية التعايش وتبادل المنافع بين الشعوب والبلدان، كما أنها تزدهر وتثرى وتزهو في ظل مناخات الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون والنظام، وصيانة حقوق الاقليات وفنونها وتراثها الإنساني.

وبحكم طبيعة وخصائص عالمنا المعاصر بابعاده المكانية والثقافية، وفي ظل ثورة التكنولوجيا والاتصالات وثأتيرات ظاهرة العولمة العابرة للقارات، فلا شك أن كل المنظومات القيمية ووسائل الدفاع الأخرى سوف تتأثر بنسبة أو قدر معين، بما يسهم في دفع المجتمعات والشعوب حو تغليب عناصر التعاون الإنساني، وتعميق مفاهيم الحوار الحضاري والتفاعل الايجابي البناء، في اطار التنوع واحترام الخصوصيات الوطنية والثقافية.

ولهذا لا بد من نبذ العنف والظلم، والاعتراف بحق الاختلاف والتمايز بين الشعوب والامم، انطلاقا من الحالة التراكمية وإفرازات عصور من النشوء والتطور الطبيعي، في مختلف جوانب الحياة الثقافية والمادية والروحية، لتنعم الانسانية بالأمن والاستقرار وتبادل المصالح بين جميع البشر.

كاتب عراقي

Al.dulaimi@hotmail.com