بعد 150 عاماً من السيطرة العسكرية على شمال الخليج، خرج الاحتلال من المنطقة كما دخل، يقول محدثي إن طوق العزلة الخارجي، وفي بعض الأحيان الداخلي، الذي فرضه الاحتلال، أورث كثيرا من الجهل والتخلف والفقر في مجتمعاتنا التي كانت أصلا تعاني وما زالت حتى الآن، وإن اختلفت أشكال الأقنعة. خرج الاحتلال ولم يقدم الكثير للمجتمعات القائمة آنذاك، لم يبنِ مدرسة أو مكتبة، لم يهتم بالتعليم أو بالصحة أو بالبنية التحتية، ولك أن تتخيل لو كانت بدايات التعليم النظامي في محيطنا بدأت قبل حوالي 200 سنة!
العالم في العصر الحديث ليس كما كان في القرون السابقة، ومفهوم الاستعمار والاحتلال قد تبلور حديثاً، فكان قديماً يعرف بالاستيطان، ثم أعاد المفكرون تعريفه بالامبريالية وانتهاءً بالاستعمار الجديد، وهو السيطرة غير المباشرة على الدول بأدوات ثقافية واقتصادية أو سياسية، حتى يكون مقبولا من المجتمع الدولي بصورة لا تخلو من الغرابة!
إن أهم ملامح استراتيجية الاستعمار الجديد هو تصدّر العامل الاقتصادي لائحة أهدافه الطويلة، إلا أنّه استخدم أهدافاً ثقافية مبطّنة لتعزيز تبعية المستعمرات في البلد المحتل، فكما يقول ابن خلدون: «المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب»، كما تبرز أهمية رابط الثقافة واللغة في ربط المستعمرات، حتى وإن انقطعت الروابط السياسية.
يقول الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد: «إنَّ الاستبداد والعلم ضدان متغالبان؛ فكلُّ إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل. والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحياناً في مضايق صخور الاستبداد، يسعون جهدهم لتنوير أفكار النّاس، والغالب أنَّ رجال الاستبداد يُطاردون رجال العلم وينكلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكّن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أنَّ كلَّ الأنبياء العظام ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وأكثر العلماء الأعلام والأدباء والنبلاء، تقلَّبوا في البلاد وماتوا غرباء».
في الفيلم المميز «آفاتار»، الذي فاز في فئة الأعمال الدرامية بجائزة «غولدن غلوب» كأفضل عمل درامي رغم غلبة الخيال العلمي على القصة، يقدم الكاتب وبعمق قصة الاستبداد الذي يمارسه البشر على الحضارات والأمم الأخرى، حيث يحاول البشر في ذلك الفيلم، فرض سيطرتهم وثقافتهم بالقوة على ثقافة شعب مختلف عنهم كلياً، وذلك من أجل الوصول إلى الموارد الطبيعية التي يحتاجونها في عملية تنمية مشاريعهم على الأرض.
يقدم الفيلم بطريقة غير مباشرة ربما، صورة هامشية لمخلوقات الكوكب المحتل من منظور غربي بحت، حيث يصورهم على هيئة جنس شبيه بالإنسان والحيوان مع ذكاء إنساني لافت، ويسخر من معتقداتهم المتمثلة في الشجرة المقدسة حسب منظوره، ومن جذورها العميقة التي تمثل تراثهم الثقافي في محاكاة واقعية لتاريخ قريب، عانت منه شعوب إفريقيا والشرق الأوسط وآسيا على حد سواء.
ظاهرة الاستبداد والطمع متأصلة في الطبع البشري، وتحميها دائما قوة المستبد المؤقتة! نراها جلية في الاحتلال العسكري بصورة كبيرة، وحتى في علم الإدارة على نطاق ضيق، عندما لا يفقه المسؤول أن السلطة المعطاة له مؤقتة ومحددة بحدود المبنى الذي يديره.
كما هو الحال على الأرض دائماً، ينتهي الاستبداد والاحتلال بسيناريو مقيت، يجبر المحتل على الخروج بطريقة مهينة، حتى وإن كان بسهم بدائي مسموم من قوس أحد السكان الأصليين! ورغم بنائهم القواعد والثكنات العسكرية لضمان استمرارية وجودهم ومصالحهم، لا بد أن يأتي اليوم وينتهي هذا الفصل الدراماتيكي، ويخرج المستبد كما دخل.
وتذكر في التاريخ جملة «خروج آخر جندي من المنطقة». يقول محدثي إن مجتمعاتنا ما زالت تعاني من آثار الاستعمار، وما تراه حولك الآن ما هو إلا القشور، كثير من المستبدين لم يقرؤوا التاريخ بتمعن، وبجهل يكررون نفس الأخطاء! وأسأله متعجباً: «كيف؟»، فيرفض التعليق.
لقد فرض الاستعمار طوقاً من العزلة الخارجية على المنطقة، فدخل الاقتصاد المحلي في نفق مظلم، بعد كساد تجارة اللؤلؤ وقبل اكتشاف النفط بكميات تجارية، كانت تلك الفترة حرجة جدا في تاريخ المنطقة، ومع صعوبة الحياة والفقر والجهل وتوفر فرص الهجرة إلى الدول المجاورة للعمل، حرم المجتمع من فرصة مواكبة ركب التطور والنهضة في مختلف القطاعات، إلا من رحم ربّك.
ومع سطوة الجهل والعزلة واشتداد قسوة الحياة، وفي خضم التحولات السياسية التي عصفت بالعالم بعد الحرب العالمية الثانية، جاءت البدايات بسيناريو محكم يحتمل الكثير من الخيال كما كان في نهاية «آفتار»، ليقدر لهذه المنطقة المنعزلة أن تكون في قلب الحدث مرة أخرى، وأن تلعب دورا أساسيا باكتشاف أشهر أنواع الوقود (النفط)، ذلك السائل الغريب الذي كان تحت أقدام أجدادنا قرونا طويلة، ليفرض الواقع الجديد نفسه على مجريات الأمور، ويغير نمط الحياة في المنطقة، لتظهر مصطلحات جديدة مثل «ما قبل النفط وبعد النفط».
لقد تغيرت أنماط الحياة من حولنا بصورة أسرع حتى من أحلامنا، ومع الطفرة أصبحت الحياة أسهل، ومع انتشار التعليم في المجتمع بدأت النهضة الحقيقية.
يقول محدثي الذي عاصر ما قبل النفط وما بعد النفط: «إن التنمية والاستثمار شملت جميع القطاعات بنسب عالية، إلا الإنسان والثقافة اللذين ما زالا يراوحان في مرحلة ما بين القبل والبعد».
كاتب إماراتي