يشير نوع الجدل المتصاعد في الفترة الأخيرة بين دول المنبع والمصب لنهر النيل الخالد، إلى حقيقة صارخة هي أن مستوى الخطر صار مرتفعا، ويهدد دولتين عربيتين، هما مصر والسودان، بكارثة مائية ستحرق الاخضر قبل اليابس، بسبب أن القضية مثلما وصفها وزير الري المصري، هي قضية حياة أو موت.

بمعنى أن الموضوع ينذر بحصول تطورات سياسية وجغرافية، ترتبط بسعي سبع من دول المنبع الإفريقية، إلى توقيع اتفاقية جديدة تلحق ضررا مقصودا بالواقع المائي المستقر في هذا الحوض منذ عشرات السنين، حيث استقرت الحال على معاهدة دولية سابقة نظمت بموجبها مناسيب المياه لكل دولة.

إلا أن الغريب هو إصرار تلك الدول الإفريقية غير العربية على ابرام اتفاقية جديدة، بمعزل عن الطرفين العربيين الكبيرين مصر والسودان، وهما شريكان لا غنى عنهما لاية معاهدة دولية إقليمية تتعلق بدول متشاطئة أو يجمع بينها شريان مائي واحد.

إن هذه المشكلة الخطيرة والمتفاقمة، تمثل ناقوس الخطر الذي علا جرسه، سيما إذا ما لاحظنا أن خطر تناقص المياه العربية من دول المنابع المجاورة، صار يمثل واقعا معاشا.

فعلى الجانب الشرقي للوطن العربي في العراق، نلاحظ تدهورا كبيرا في مناسيب المياه لنهري دجلة والفرات النابعين من تركيا، إلى الحد الذي يعاني فيه سكان جنوب العراق من أزمة حادة، دفعت آلاف العائلات الفلاحية إلى هجرة أراضيها الزراعية والتوجه إلى حافات المدن، بحثا عن عمل أو نشاط يقيهم شبح العوز والفاقة.

ويقول وزير الري والموارد المائية العراقي الدكتور لطيف رشيد، ان الكمية المتفق عليها مع الجارة تركيا هي إطلاق كميات من المياه بواقع 500 متر مكعب في الثانية، الا أن الذي يصل لا يتجاوز نصف هذه الكمية.

ومثل هذه الحالة تتكرر أيضا في مصب نهر دجلة، خاصة إذا ما أضفنا إلى ذلك أن قيام ايران بتغيير اتجاهات بعض الانهار التي تصب في شط العرب، كنهري الكارون والكرخا، واقامة بعض السدود والنواظم عليها، بمعزل عن التنسيق والتشاور مع الجار العراقي، قد اسهم بلا شك في خلق كارثة مائية لسكان مدينة البصرة التي تتغذى من مياه شط العرب، اذ ازدادت نسبة الملوحة في المياه وارتداد مياه الخليج إلى الشط، بحيث تيبس نخيل وأشجار البصرة مع تفاقم نقص مياه الشرب للسكان المحليين في هذه المنطقة..

إذن، نحن أمام مشهد متشابه من حيث عناصره الأساسية، يتمثل في قيام أو سعي دول الجوار غير العربية، إلى انشاء سدود لخزن المياه أو مشاريع لتوليد الطاقة الكهربائية، من غير التشاور والتنسيق مع البلدان العربية المشاطئة على هذه الانهار الخالدة في وجدان سكان هذه البلدان، بحيث اشتهرت بتسمياتها المرتبطة في الشعر والاساطير المختزنة في ذاكرة هذه الشعوب، بهذه الشرايين المغذية لعنصر استمرارية الحياة. فقد عرف العراق ببلاد ما بين النهرين، ومثله مصر الكنانة سميت هبة النيل..

ولا يمكن تصور أن مصر كبلد وحضارة ستبقى مع جفاف النيل، لا سمح الله، أو أن يتحول نهرا دجلة والفرات إلى مجرد أودية، كانت في الماضي أنهارا تجري في شرايينها المياه..

وبعيدا عن إدراك أهمية هذه المخاطر التي يعلمها الباحثون والمهتمون، وقبلهم المختصون في هذه الدول، يبقى أن السياسات التي اتبعتها إسرائيل منذ سنوات طويلة في القارة الإفريقية، وعبر خطط وبرامج ذكية تتراوح بين تقديم المساعدات الاقتصادية والخبرات الزراعية وتثبيت مراكز للنفوذ، في ظل غياب أو تلكؤ سياسة عربية واضحة واستراتيجية منسقة للعلاقات مع إفريقيا، قد أسهم في إلحاق ضرر كبير بموضوعة الأمن القومي العربي، والذي يأتي عنصر المياه في أعلى مراتب الحاجة إليه، باعتباره كما وصفه وزير المياه المصري «قضية حياة أو موت»..

علينا كعرب أن نعمل، ضمن منظومة قومية واحدة هي «جامعة الدول العربية»، على التحرك بشكل منظم ومنسق لاعادة رسم سياسات وصياغة استراتيجية تستهدف تطوير وتنمية وربط علاقاتنا مع دول الجوار غير العربي، كإثيوبيا ودول البحيرات العظمى وتركيا وإيران، بسلسلة من المصالح الفعالة، وعدم ترك كل دولة عربية لها ارتباط بهذه الانهار تعمل لوحدها، وكأن الذي يجري هو في كوكب آخر..

لدينا مناخ عربي إيجابي جيد جدا مع تركيا في عهدها الحالي، ودول عربية أخرى لها علاقات متينة مع إيران، كما أن القيادة الليبية وفي دول أخرى تحظى بنفوذ كبير في الساحة الإفريقية، وهو ما يساعد بلداننا على التحرك الايجابي الفعال، وإلا فالمستقبل القريب وليس البعيد، سوف يحرك نزاعات وكوارث نحن في غنى عنها، اذا ما استطعنا أن نوظف مميزات عربية عديدة في الدفاع عن مصالحنا القومية.

تركيا جار لنا وإيران كذلك، كما أن إفريقيا في عهد الرئيس الراحل عبد الناصر كانت بوصلتها أبدا نحو القاهرة، فما الذي تغير؟!

كاتب عراقي

Al.dulaimi@hotmail.com