الأوضاع الصعبة التي يعيشها اليونان هذه الأيام تتداخل فيها كثير من خفايا السياسة مع خفايا الاقتصاد، ذلك أن غياب الحكم الرشيد عن هذا البلد في حكومات سابقة قاد الدولة إلى مديونية هائلة تزيد على 300 مليار دولار وأصبحت مهددة بأخطار اجتماعية تهدد كيان الدولة وتؤثر في قرارها السياسي بعد أن فقدت القرار الاقتصادي بسبب مديونيتها الهائلة.

ربما تكون اليونان ضحية أخرى للأزمة وقد تكون رأس جبل الجليد بالنسبة لأوروبا التي تتخوف من يونانيات أخرى في اسبانيا والبرتغال وايرلندا وحتى ايطاليا الدولة الصناعية الكبيرة.الأسباب التي قادت اليونان إلى هذه الكارثة ربما من الصعب أن نحيط بها، لكنها في مجملها تتمثل في زيادة الإنفاق العام وبدرجة تفوق مقدرة الحكومة مخالفة القاعدة الاقتصادية التي تدور حول «اللحاف وطول الرجلي» في اللهجة الفلاحية، فضلاً عن تشوهات تشريعية وتنظيمية تتعلق بالضرائب وقضايا اقتصادية أخرى فضحتها الأزمة.

البعض يعيب على ألمانيا ترددها في مساعدة دولة عضو في الاتحاد الأوروبي وربما يكون هذا صحيحا لكن من يعرف «العقلية الألمانية» في «البيزنس» يدرك السبب في كون ألمانيا اكبر اقتصاد في أوروبا فضلاً عن كونها اكبر دولة مصدرة في العالم.

ألمانيا وضعت شروطاً ربما تكون قاسية على اليونان لتخفيض العجز في الموازنة ومنها زيادة الضرائب والإصلاحات التشريعية وخفض الإنفاق العام وغيرها، الأمر الذي قد يهدد بإضرابات وموجات عنف وقلاقل اجتماعية.

ولمن لا يعرف فإن كثيرا من الألمان غير راضين عن تقديم مساعدات لليونان، خصوصا أن سبب معاناة هذه الدولة المتوسطية السياحية يعود بالدرجة الأولى إلى أخطاء بشرية تخالف تماما نظرة الألمان إلى العمل، فهم يطالبونها بالمزيد من العمل والجهد وحتى الانضباط الاقتصادي.

الألمان يدركون الآن أن هناك قائمة من الدول قد تلحق بالتجربة اليونانية المرة، وهم لا يستطيعون تقديم المساعدة في كل مرة، حتى وإن كانت هذه الدول تستقبل الصادرات الألمانية في أسواقها.البعض يقول ان وجود أوروبا قوية يعني وجود ألمانيا قوية لأن اليورو كما يصفه البعض هو النسخة الأحدث من المارك الألماني الشهير، والكل يعلم ماذا عملت ألمانيا حتى تظهر الوحدة في أوروبا وكيف عانت في البداية لتحقيق وحدتها ومن ثم وحدة أوروبا، فضلاً عن تجربة مرة عاشتها ألمانيا بعد الحرب الثانية وتقسيمها بين شرقية وغربية.

بالطبع ألمانيا لن تقف مكتوفة الأيدي عند ظهور بوادر الخطر في الاقتصاديات الأوروبية الأخرى لكنها من جهة أخرى تريد انضباطا اقتصاديا يضمن للكتلة الأوروبية الاستقرار أمام ما يبدو انه اكبر تحد يواجه القارة العجوز ويهدد بفرط العقد الأوروبي الذي تتزعمه ألمانيا اقتصادياً.

اليونان ومن خلال تجربتها القاسية عزلت نفسها عن العالم وعن أوروبا في ظل عولمة عنوانها الاقتصاد، وهي أي اليونان تعرف أن ثمن المساعدات التي قدمتها ألمانيا وصندوق النقد الدولي يعني التنازل عن جزء كبير من القرار الاقتصادي، لكنها مطالبة مع أوروبا بالانتباه أكثر إلى الجانب الاجتماعي وتأثر الشعب اليوناني بإجراءات التقشف، خصوصا أن الكثيرين يرفضون أن يدفعوا ثمن أخطاء حكامهم السابقين، وهي أخطاء راوحت بين الفساد والإسراف في الإنفاق، وربما يكون الشعب والطبقة الفقيرة هم دافعي هذا الثمن الباهظ.

ألمانيا وأوروبا اليوم أمام تحد اقتصادي لن يكون سهلاً، وعلاج اليونان رجل أوروبا المريض قد يأخذ سنوات، هذا إذا بقيت اليونان وحدها ولم تنسحب التجربة على دول أخرى، وربما تعاني أوروبا كلها اقتصاديا بسبب التجربة اليونانية، بل أن بعض المتشائمين بدأ يشكك في بقاء الاتحاد نفسه ككتلة اقتصادية واحدة مع وجود اختلالات اقتصادية عديدة ستؤثر حتما على النمو الذي تلقى ضربات سابقة بتأثير الأزمة العالمية وما رافقها من تراجع ثقة المستهلك وحركة التجارة والتصدير، وهي قضية هامة بالنسبة للاقتصاد الألماني الذي يعاني من مشكلة فريدة من نوعها.

وهي ذلك الكم الهائل من المواد والسلع والمنتجات المعدة للتصدير والتي تحتاج إلى أسواق وقوة شرائية جيدة للمستهلك الذي تراجعت ثقته كثيرا خلال العامين الماضيين بفعل الأزمة، وربما يكون هذا حافزا لألمانيا للبقاء على اعلي درجات الاستعداد ومراقبة أداء الاقتصاديات الأوروبية المهددة بالانكماش والعولمة لم تترك لأي كان فرصة الانعزال.

asmadi@albayan.ae