لقد هجر معظم الناس حياة البساطة التي لطالما عاشوها لسنوات طويلة، وها هم اليوم يحنون إليها وبقوة، حيث لا يزال كثيرون من أبناء جيلي يتذكرون حياتهم الأسرية البسيطة، يوم كانوا يعودون من مدارسهم أو أعمالهم ظهراً ليتجمعوا حول مائدة الغداء البسيط جداً، ويحتسوا الشاي معاً، ثم يبدؤوا في الحديث عما مر بهم خلال اليوم، وحين ينتبهون يكون موعد الحلقة الجديدة من مسلسل الساعة التاسعة قبيل نشرة الأخبار قد حان، لم يكن هناك سوى ثلاث أو أربع قنوات لا أكثر، تلك كانت إحدى مميزات عصر البساطة!

ظاهرياً تبدو هذه التفاصيل في غاية البساطة والشيوع في معظم المجتمعات، الغريب أننا لم نغادر هذه الحياة منذ قرون، فهذا كله كان يحدث منذ عشرين عاماً فقط، قبل أن تصبح لدينا ألف قناة فضائية لا نشاهد منها شيئاً، وآلاف الوصفات والأطباق نخاف أن نقترب منها كي لا نصاب بالكوليسترول وزيادة الوزن، عشرون عاماً هو ما احتجنا إليه لكي تتبدل حياتنا تماماً، ونفقد تلك البساطة التي صارت اليوم حلماً يسعى الآلاف لاستعادته عبر رحلات وأسفار وأمكنة بعيدة!

فماذا يعني مفهوم الحياة البسيطة؟ إنها فلسفة تقوم على التخلص من التعقيدات والتركيز على ما هو أساسي ومهم في الحياة، وهي تعني التقليل من التشويشات اليومية والابتعاد عن التباهي الفارغ أو الاستهلاك المفرط والتافه في عصر متخم بالتكنولوجيا، سمته الحداثة والتسارع والمظهر البراق، بحيث تبدو العودة إلى الحياة البسيطة تحدياً كبيراً، لكنه ليس مستحيلاً في الحقيقة!

يتساءل البعض: ولماذا الحنين للحياة البسيطة؟ في الحقيقة لقد أثبتت تجربة الحياة في ظل تعقيدات الحداثة مدى الحاجة لتلك البساطة الخالية من الضغوط التي تفرض على الناس امتلاك المزيد من المال والمقتنيات والأشياء، لتلبية متطلبات حياة الاستهلاك المعاصرة؛ لذلك فإن البساطة وحدها هي التي ستنقذ الإنسان من سباق التفاهة هذا، لكن الأمر ليس بالبساطة المتخيلة، إنه يتطلب وعياً عالياً بأن القيمة الحقيقية لا تكمن في كم الأشياء التي نمتلكها، ولكن في نوعية الحياة التي تمنحها لنا هذه الأشياء، وفي جودتها وبهجتها المتحققة للروح والقلب والجسد معاً.