نحن نعيش في الزمن أكثر مما نعيش في الأمكنة والبيوت، وحين نخطط أو نريد أن نغير فإننا نفكر في المستقبل، وحين نحنُّ أو نشتاق فإننا نستحضر الماضي، وكلاهما: الماضي والمستقبل، زمن، قبل أن يكون أي شيء مادياً ملموساً؛ أي قبل أن يكون أمكنة وأشخاصاً وألواناً وروائح.
ومفهوم الزمن مختلف في الفيزياء عنه في الفلسفة عنه في الدين، لكنه الشيء الوحيد الذي لم يخترعه الإنسان على الرغم من كونه المتحكم الأول في سيرورة حياته. إن دور الإنسان في لعبة الزمن الملغزة هو دور المكتشف الذي صقل هذا الزمن وأعاد تنظيمه وترتيبه؛ لأنه مفهوم أكبر من علم الإنسان وقدرته على الإحاطة؛ لذلك فمعرفة الإنسان بالزمن لم تأتِ دفعة واحدة، بل نشأت بشكل تدريجي في الوعي البشري.
المؤكد هو أن الزمن ظاهرة طبيعية سبقت البشرية، بدأت قبل الإنسان، وقبل نشوء الحضارات التي نشأت عبر الزمن وفي لحظة من لحظاته، ثم بدأت البشرية لاحقاً في مراقبة الزمن وقياسه، واختراع الأدوات والقوانين والنظريات والأجهزة المساعدة.
تبدو علاقتنا اليوم بالزمن علاقة غامضة وملتبسة؛ لأننا لا نعرف إطلاقاً ما هو هذا الزمن، كيف يتسرب منا، كيف يضيع تماماً، لكنه يبقى مخزوناً في أذهاننا وكأن شيئاً منه لم ينقضِ، وهذا ما تحيلنا له الذاكرة وقدرتها الفذة على استحضار كل اللحظات التي مرت بنا وعشناها، فنشعر بها ونتذكرها كأننا نراها، أليس هذا استحضاراً أو قبضاً على الزمن وكأنه بين أيدينا؟
ومع ذلك فنحن لا قدرة لنا على إعادته من نقطة الصفر، لا يمكننا أن نعود كما كنا أطفالاً، أو نقذف بأنفسنا إلى عمر معين أو سنة بعينها، هذا ما لا يمكن على الإطلاق، إذن فقدرتنا الوحيدة هي في استعادته عبر وسيط ملغز ومجهول الملامح هو الآخر، وأقصد به الذاكرة، فما هي الذاكرة على وجه الدقة؟
إن الزمن هو الشيء الوحيد الذي لا نملك السيطرة عليه، ولقد أراد الإنسان وحاول بالطيران واكتشاف الفضاء وفكرة السفر عبر الزمن و... إلا أنه عاد لنقطة الصفر؛ لذلك علينا استثماره بحكمة قبل أن يفلت منا.