تمر عليك أوقات من دهرك تكون فيها منسحباً بكليتك لمكان آخر، وزمن آخر، وكأنك لست من هنا، وكأنك لست معنا، تكون ذاهباً إلى زمن عشته أو أمكنة سكنتها، وبسبب ما يثور في داخلك، شيء ما يذكرك بها، فتترك كل شيء وتسافر بقلبك أو روحك أو ذهنك إليها، وتعجب أشد العجب كيف أن الذاكرة، هذا السجل الضخم الغامض الخطير المخاتل قد اختزن كل هذا زمناً طويلاً، وكيف أنه أخرجه لك كله مرة واحدة، بسبب رائحة، أو صوت أو وجه مس ختم الذاكرة ففضه بسهولة، وأباح أسراره!
كنت قد أهملت قوارير عطر كثيرة في غرفتي، لم أمسها منذ زمن، خطر ببالي هذا الصباح وأنا أستعد لمغادرة المدينة أن أضع شيئاً من تلك العطور، وما إن رششت من زجاجة بعضاً من عطرها حتى فاح عمر، ولاح زمن، واختلطت أمامي وجوه وأسماء، وظل السؤال: أين شممت هذه الرائحة لأول مرة؟ وما القوة المختزنة فيها حتى يمكنها إعادة بعث أيام غدت من الماضي؟ وظل عقلي يستنشق الرائحة يحاول الوصول إلى إجابة، مرة ومرتين وعشراً دون فائدة، هذه الرائحة تأخذني لمكان وزمن وأحداث لكنني لا أتمكن من الوصول إلى كنهها!
كل رائحة اعتدناها وأحببناها ورافقتنا زمناً ثم تلاشت لها بصمة في حياتنا، ولها سجل وتاريخ، وعقلنا يحتفظ بملفات محددة لهذه الروائح، مرفقاً كل رائحة بسيرة ذاتية مفصلة ومنفصلة عن غيرها، رائحة العود مثلاً عندما يحرق في بيتنا ويفوح عالقاً في أرجاء المنزل يستدعي صوراً بلا حصر، أسمي رائحة العود برائحة العيد، ورائحة الجمعة ورائحة غرفة أمي، هكذا تحتفظ ذاكرتي بهذه الرائحة التي لها مع الإماراتيين تاريخ عتيد وطويل! ترافقه رائحة دهن العود والبخور، حيث أرى أمي تبخر ثياب إخوتي يوم الجمعة قبيل ذهابهم للصلاة، وأراها تضع دهن العود وتتبخر قبيل أن تتفرغ لصلواتها وقراءة القرآن، هذه صفحة من سجل الرائحة الأقوى والأبقى في بيتنا، رائحة العيد!