لم أستطع فك شيفرة عنوان الرواية إلا بعد أن قطعت شوطاً لا بأس به في قراءتها، لا بأس، فذلك لم يؤثر في مقدار شغفي بها، وفي الأساس كنت قد وطدت نفسي على أنني عاجلاً أم آجلاً سأتعرف على تفسير واضح للعنوان الذي اختاره الروائي السعودي محمد حسن علوان لروايته الرائعة (موت صغير)، التي يسرد فيها سيرة حياة ووفاة ابن عربي، باعتباره شيخ المتصوفين وصاحب مذهب الحب الذي أثر عنه قوله الشهير ( أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه.. )
وفي الحقيقة فإن الموت الصغير يشير إلى العشق بحسب عنوان جانبي جاء في بداية أحد فصول الرواية ! لا يحكي علوان في روايته أي شيء عن موضوعه الأثير الذي اختص به في كل نتاجه الروائي السابق: علاقة الحب بين الرجل والمرأة، لكنه يذهب إلى التاريخ يخرج لنا من الفتوح المكية التي سطر فيها ابن عربي سيرته، ليقدم لنا شخصية غاية في اللطف والعمق والحب، لذلك، وهو انطباع شخصي، فعندما تقرأ الرواية وتتركها حيناً منشغلاً بأمورك الأخرى يأبى شخص ابن عربي أن يغادرك، فيلقي بظلاله عليك ويبقى معك ما يجعلك تعود لقراءة موت صغير وبلهفة !
ذلك أن (علوان) نجح في رسم شخصية شيخ المتصوفين بشكل بالغ الحساسية والعمق والتأثير، لم يفصل الشخصية عن سياقاتها التاريخية المتشابكة والمعقدة، لكنه لم يتورط ولم يورط القارئ في هذا التاريخ، حتى عندما طرح بشكل سريع الموقف من إمامة سيدنا علي بن أبي طالب، جعلها تبدو قضية بسيطة مرتبطة بأقدار الله لو أن الناس فهموها على حقيقتها.
(موت صغير) تدخل ضمن القائمة القصيرة، وهي ثاني أعماله ترشحاً لهذه القائمة بعد روايته (القندس)، تمتح الرواية أحداثها وتفصيلاتها كلها من التاريخ في ظل بناء روائي محكم يسير ضمن خطين متوازيين زمناً وهدفاً، سيرة حياة ابن عربي وتنقله بين عواصم وحواضر العالم الإسلامي بدءاً بالأندلس وانتهاء بدمشق حتى وافته المنية ودفن فيها.
الخط الثاني يرصد رحلة مخطوط للشيخ ابن عربي منذ كتبه وحتى تنقل بين العواصم أيضاً ووصل إلينا، بناء محكماً ولغة رصينة، قوية وجميلة الوقع، تقع الرواية في 600 صفحة، لكن ذلك لا يجعلها ثقيلة ولا مرهقة بل يجعلك تحزن بشكل ملموس وأنت تصل للصفحة الأخيرة فيها تلك التي تروي حادثة وفاة الشيخ في أحد بساتين دمشق إثر تعرضه لإصابة بليغة في أحداث التظاهرات التي عمت دمشق مطالبة بالإفراج عن الشيخ العز بن عبد السلام !