لفيروز أغنية من كلمات ولدها زياد، بعنوان بيذكر بالخريف، من بين كلماتها جملة وحيدة ذات تركيب عميق (وجهك بيذكر بالخريف)، يعلق بالذاكرة إلى الأبد.
الخريف الذي لا أحتاج شيئاً يذكرني به، فقد علقت أيامه الباردة ومطره الذي يهطل بلا موعد، ورياحه التي تدخل الحزن إلى القلب، ذاك الخريف الذي قضيته كاملاً في مدينة كارديف البريطانية، عندما كنت أتحضر لدراسة الماجستير قبل عشرين عاماً من اليوم!
ذلك الزمن العالق بذاكرتي وبصري، وربما بخيوط ثيابي وخطواتي وأحذيتي، التي لطالما قطعت بها تلك الطرقات، التي قادتني مسرعة كمجنونة إلى موقف الحافلات كل صباح، كما علق طعم حلوى المندلين، الذي تناوله «مارسيل بروست» في بيت خالته طفلاً، ثم استعاد من خلال ذاكرة الحلوى تلك، زمناً امتد كثيراً، حتى جاوز قرابة السبعة أجزاء من روايته (بحثاً عن الزمن الضائع)!
اليوم، أشعر وكأنني أجلس على ذات الكرسي الذي جلس عليه بروست، يوم هطلت ذاكرته بذلك الزمن، وأنا أجوب أراضي وسهول واحدة من أجمل بقاع الأرض على الإطلاق، وفي هذه الأيام الخريفية، التي تزحف فيها القارة الأوروبية صوب شتاء قاسٍ بلا شك. إنه الخريف وأوراق الشجر الأصفر، الذي يملأ الطرقات والشوارع، ويتكدس أمام أبواب المنازل، وتحت الأشجار المعمرة، وإنها منطقة ريف النمسا المعروفة بإقليم تيرول، أو ما كان يعرف يوماً بمقاطعة تيرول!
أراضٍ بهية تمتد على مساحة 10 آلاف ميل مربع، عرفت في السابق باسم أرض الجبال، أتجول بين أزقة قراها، وممرات حدائقها ومقاهيها، وأقف أمام عظمة جبالها وشلالاتها، يذكرني كل مكان فيها بأهل وأحباب وأصحاب، جالوا معي كل هذه المناطق المتلألئة، على اتساع المدى والجمال، فكانت لنا معاً أيام من الصحبة والضحك الصافي، وخفة الروح والبال بعيداً عن كل المنغصات التي تراكمت وسط الطريق خلال السنين الماضيات!
جئت إلى هذه المنطقة لأول مرة في عام 1999، مع صديقة أتذكرها، حيث أتنقل اليوم في ممرات مزروعة بأشجار الصنوبر والحور والبلوط، أتأمل مهرجان ألوان الخريف، وأكاد أبكي لفرط الجمال: الأصفر والبرتقالي والأحمر والبني، وأقول لنفسي، إذا لم يكن من سبب يدفع الإنسان للمجيء في هذا الوقت إلى هنا، فتكفي هذه الحالة الأسطورية التي يصنعها الخريف بكامل تجلياته!